لم تأت النهضة الأوروبية من فراغ، فقد سخّر الأوروبيون ما استطاعوا من منجزات العصور السابقة، ولا سيما التقدم المذهل الذي أنجزه العرب في فترة قوتهم، إضافة إلى الاختراعات الصينية. واستطاعت أوروبا أن تخطو خطوات كبيرة، وتستأثر بالقوة العلمية لوحدها لفترة زمنية طويلة.

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، قام صانع الآلات البخارية ماثيو بولتون بعرض بضاعته على الإمبراطورة الروسية كاترين، قائلاً: "إني أبيع لك، يا سيدتي، بضاعة يريدها العالم كله: القوة". وظلت هذه العبارة تُذكر، في مناسبات كثيرة، كدليل على تفتح الثورة الصناعية في أوروبا، وولادة اصطلاح حرية التجارة. وإن دلت كلمة (القوة) على شيء، فإنها تدل على أن العلم الأوروبي قد بدأ ينتشر في مناطق خارج حدوده الجغرافية.

لم تأت النهضة الأوروبية من فراغ، فقد كانت منجزات العصور الوسطى ماثلة للعيان، حتى وإن تجاهل مؤرخو عصر النهضة ما قدمته تلك العصور المظلمة، من تقدم تكنولوجي معقول، كاختراع طاحونة المياه والهواء والبوصلة والبارود والعدسات والورق وصناعة التقطير.

قوة العلم، نيوتن.. أنوار العلم

وفي الحقيقة، فقد كانت معظم هذه المنجزات صينية، وقد وفدت إلى أوروبا وتطورت، ولكنها جمدت في الصين، بسبب رجعية طبقة البيروقراطيين، التي عطلت كل تقدم ممكن، باحتقارها للتجارة.

فقبل الرحلات البرتغالية الاستكشافية بسبعين عاماً، وأهمها رحلة فرديناند ماجلان، أرسل أحد أباطرة أسرة مينغ الحاكمة سبع حملات استكشافية كبرى من الصين. ضمت الحملة بقيادة زينغ هي — الذي من المؤكد أنه كان قائداً بارعاً 27—ألف ملاح ومائتي سفينة، بلغ وزن كبراها 1500 طن. (في المقابل، ضمت حملة كولومبوس الأولى طاقمًا من 87 ملاحًا وثلاث سفن لم يتجاوز وزنها 100 طن). أبحرت هذه الأساطيل الصغيرة من الصين نحو جزر الهند الشرقية، بمحاذاة ملقا وسيام وسيلان، وعبر المحيط الهندي، وجنوباً نحو الساحل الشرقي لأفريقيا، وربما وصولاً إلى مدغشقر. وأظهرت الرحلات الصينية — باعتمادها إلى حد بعيد على البوصلة المغناطيسية — مدى البراعة التقنية عند الصينيين، إلا أن الحملات الاستكشافية توقفت بعد ثلاثة عقود[1].

أما أوروبا، فقد خلقت، عبر التجارة، جواً ملائماً للتقدم التكنولوجي والعلمي، بإيجاد الأسواق لترويج المنتجات والمصنوعات. وهكذا، فقد تضاعفت الثروة، وتفجرت ثورة العلم، وتحطم النظام الإقطاعي.

عن طريق العرب، وصلت صناعة الورق من الصين إلى أوروبا، وساعدت هذه الصناعة على نشر التعليم. وفيما بعد اخترع الصينيون والكوريون الطباعة المعدنية واستخدموها في القرن الرابع عشر. وبعد قرن تقريباً، وصل هذا الاختراع إلى أوروبا واستخدموه. انتشرت طباعة الكتاب المقدس في البداية، ثم طباعة الأدب الكلاسيكي والفكر البرجوازي آنذاك. وفي القرن السادس عشر، راجت الكتب كثيراً، وأصبح الكتاب وسيلة مهمة لنقل العلوم والتكنولوجيا، وتعميم الأدب والفكر.

نهضة، إصلاح، صناعة

قام بعض المؤرخين بتقسيم الثورة العلمية في أوروبا إلى ثلاث مراحل: الأولى عصر النهضة (1440- 1540)، والثانية عصر الإصلاح (1540- 1690)، والثالثة عصر الثورة الصناعية (1690- 1895). وكانت المدن الإيطالية هي المبادر لوضع القواعد الأولى لعصر النهضة، لتمتعها بالاستقلال السياسي والاقتصادي. ومن ثم فقد تبعتها ألمانيا، حيث تبلورت حركة مارتن لوثر الدينية، ووقعت حرب الفلاحين (1525- 1526). وتتابعت الثورات في المجر وإسبانيا، ثم في إنكلترا وفرنسا، وانتشرت ديمقراطية النخبة، ولكن تحت حكم الأمير المستبد المساند للتجار. وبقيت الجامعات قلاعاً للرجعية الفكرية. ولكن ملك فرنسا المستنير فرنسيس الأول، أنشأ عام 1530 الكوليج دي فرانس، لتعليم العلوم الإنسانية، التي تهتم بمصالح الإنسان.

نشطت الحركة العلمية بشكل ملفت، وعمل التكنولوجيون على نقل خبرات العصر الكلاسيكي والعصر الإسلامي، كما عمل المفكرون على نقل المعارف والفلسفات الشرقية والإسلامية. حينها وجد إنسان عصر النهضة نفسه أمام إعادة اكتشاف عالم الطبيعة والفن والسيطرة عليه.

كان عصر النهضة هو عصر دافنشي (1452- 1516) وكوبرنيكوس (1473- 1543) الذي غيّر مفهوم الإنسان عن الكون، مؤكداً أن الشمس لا الأرض هي مركز الكون. آمن الناس بأفكار العلماء، ولم تتمكن السلطات الرجعية أن تفهم خطورة هذه الأفكار إلا بعد فوات الأوان. ولأول مرة يؤثر الفن في العلم، حيث اكتشف الفنانون المنظار، واهتموا بالطبيعة وبتشريح جسم الإنسان وبالهندسة العسكرية وبالعلم. فمثلاً تفتحت عبقرية دافنشي عن صنع نماذج الطائرة الميكانيكية والطواحين، ولم تستطع القوانين العلمية حينها أن تجاري عبقريته.

تجرأ الناس - بعد اكتشاف أمريكا - على التفكير في وجود عوالم جديدة في السماء. وذهب برونو (1548- 1600) ضحية هذا التفكير، فأحرقته محاكم التفتيش بتهمة الزندقة، وكان موته يعدّ استشهاداً في سبيل العلم. وجاء عالم فلك يدعى تايكو براهي (1546- 1601) ووضع أسس علم الديناميكا، وألف مساعده كبلر (1571- 1630) كتاباً سماه (سر الكون)، شرح فيه الحركة الظاهرية للمريخ ودورانه حول الشمس في مدار إهليلجي. وكان العلماء العرب في طليطلة، في القرن الحادي عشر، قد توصلوا إلى هذه النظرية قبله.

وضع غاليلو غاليليه أول مانفستو للعلم الجديد وللثورة العلمية العصرية، عبر كتابه (حوار حول النظامين الأساسيين للعالم البطليموسي والكوبرنيكي). واستخدم تليسكوباً للوصول إلى دليل قاطع على أن الأرض هي مجرد كوكب يدور في مدار حول الشمس[2].

كان اسحاق نيوتن حالة خاصة بوضوح، سواء من حيث اتساع نطاق إنجازاته العلمية أو من حيث وضوح نهجه المميز في إرساء القواعد التي ينبغي أن يرتكز عليها العمل العلمي. ولكن حتى نيوتن ذاته فقد اعتمد على أسلافه المباشرين، مثل غاليليو ورينيه ديكارت[3].

في القرن الثامن عشر، جهد الفلاسفة في شرح نظرية نيوتن، للتوفيق بين مفاهيمها والمفاهيم الاقتصادية والسياسية الجديدة. وقد دعا جون لوك (1635- 1704) إلى حكم القانون العلمي لنيوتن. وهاجم فولتير الوضع القائم باسم العقل، وشكّ هيوم في معرفة أي شيء على وجه اليقين. أما بركلي، فأنكر وجود العلم وحقيقة العالم المادي. ورغم معرفته الرياضية الواسعة، فقد دعا ليبنتز إلى أفكار العصور الوسطى البالية، وإلى سيادة النظم الرجعية القائمة، وقال: "إن كل شيء في العالم، هو أحسن ما يمكن في أحسن عالم ممكن". وهكذا فقد تصارعت الأفكار التقدمية مع الأفكار الرجعية، وكان النصر للأولى.

فجر التنوير

فكر الناس، في أواخر القرن الثامن عشر، في إقامة عالم على أساس العقل، عالم تسوده المساواة لا التعصب والامتيازات الطبقية. وتحول الحكم المطلق بالتدريج من سلطة حكومية قوية، إلى وهم مدعوم من قبل الجهاز البيروقراطي. وظهر مفكرون تنويريون، نهلوا من حكمة الصين وفضيلة الهند، فنادى فولتير (شيخ التنوير) باحترام نيوتن، ودعا إلى إيصال نتائج تطور الفيزياء والرياضيات إلى عقول الجميع، لأنه بدون العقل لا يمكن تحسين الحياة، ولا يمكن أي تعديل في أنظمة الدولة. كانت خطط فولتير تقدمية، حيث دعا إلى المدارس العلمانية كبديل عن المدارس والكليات اليسوعية. وتحدث عن وجوب تغلغل روح التنوير في المواطنين، وعن أهمية تسرب الضوء بالتدريج، وقال إن الحركة التقدمية للعقل، تؤدي مع الزمن إلى انتصار التنوير على الجهل.

نادى جان جاك روسو (1712- 1778) بالعودة إلى الطبيعة، وفصل علاقة العقل عن الغنى والنسب، وقد كتب: "الناس لا يكونون ملوكاً من الطبيعة، ولا وجهاء ولا أصحاب مقام ولا من حاشية البلاط ولا أغنياء. فالجميع يولدون حفاة وفقراء، الجميع معرضون لمخاطر الحياة، والموت مقدر على الجميع". وبمقتضى العقد الاجتماعي، يصبح الكل متساوين في ظل القانون، والقانون إرادة الكل تقر الكلي أي المنفعة العامة[4].

وأدت هذه الأفكار إلى إثارة غضب وجهاء وأغنياء فرنسا.

مع انفجار الثورة الفرنسية، تحطمت قيود الإقطاع، وأعلن حكم العقل، وظهر علماء عظام، أمثال: مويخ ولازار وكارنو، ناصروا الجمهورية وتحمسوا للثورة. أما لافوازييه وكوندورسيه وبيلي، فقد كانوا وقوداً للثورة وضحايا الهجوم عليها.

أحدثت اكتشافات قانون الطاقة في الفيزياء على يد هلمهولتز وكارنو، ومن ثم نظرية داروين في علم الأحياء، صدعاً كبيراً في النظرة إلى العلم الكلاسيكي، إذ أكد داروين على ميكانيكية الانتخاب الطبيعي، التي قضت نهائياً على علل أرسطو الغائية. وحارب رجال الدين نظرية داروين، التي زعزعت إيمانهم واطمئنانهم النفسي، في أن يتصوروا أن الإنسان - ذلك المخلوق النهائي المكتمل - ليس إلا قرداً ذكياً. وبانتصار داروين عاد العلم ثورياً من جديد.

العرب والتقدم العلمي

لم يقف العرب في وجه التقدم العلمي والفكري، كما حدث في مرحلة ما في الغرب. وانطلق المفكرون العرب يبحثون في ثقافة اليونان، وينهلون من كل المعارف التي سبقتهم. وفي العصر العباسي، بدأت حركة ترجمة كبرى للعلم الإغريقي إلى اللغة العربية، وكان الأمراء والخلفاء يدعمون هذه الحركة، حيث أسس المأمون مكتبة كبرى أطلق عليها (دار الحكمة)، فيها أصدر حنين بن اسحق (810- 877) وثابت بن قرة (825- 901) النسخ العربية لأعمال أرسطو وبطليموس، وتمت ترجمة أعمال الفلاسفة الهنود والفرس. وبعد فترة، اضطر الغرب أن يأخذ معرفته بالعلم الإغريقي عن العرب. وهكذا فقد أعاد العرب العلم الإغريقي إلى الحياة من جديد، بعد هضمه ومزجه بالثقافة الإسلامية.

برز علماء وفلاسفة عرب كبار، كالكندي (809- 873) والرازي (865- 925) وابن سينا (980- 1037)، أرادوا تنقية الكيمياء مما يعلق بها من الغيبيات. وتقدم العلماء العرب في الحساب والهندسة، وخطوا خطوة كبيرة، عندما أدخلوا الأرقام الهندية والصفر الهندي في علم الحساب. وكان السوريون يعرفون ذلك، ولكنهم عجزوا عن استخدامه.

ألف الفرجاني أكبر موسوعة في الفلك، وأقام علماء الفلك مرصداً كبيراً في حرّان. ولولا بحوث العرب في الفلك والرياضيات، لتأخر علماء الغرب كثيراً عن القيام بنهضتهم. ووضع العرب أساس الجغرافيا الحديثة. واعترف الغرب بأن العرب هم واضعو أساس علم الكيمياء، وهو الأساس الذي ظل قائماً في القرن الثامن عشر. ويعتبر جابر بن حيان (720- 803) أبا الكيمياء، ومكانته فيها تشبه مكانة أبوقراط في الطب. وظل كتاب (القانون) لابن سينا في الطب، وكذلك كتاب ابن رشد (الكليات)، إضافة إلى أعمال ابن خلدون، تدرَّس في جامعات أوروبا حتى القرن السابع عشر.

دمر التتار والترك ما أنجزه العرب من علم هائل، ولم يكمل العرب قفزتهم العلمية المذهلة التي حققوها في عهدهم الذهبي من القرن التاسع إلى القرن الحادي عشر، ثم أسلموا الشعلة إلى العلم الإقطاعي في أوروبا.

توقف ما يمكن أن نطلق عليه (التنوير العربي)، حتى بداية القرن التاسع عشر، وذهاب بعض المثقفين العرب إلى الغرب للدراسة، وجلبهم لأفكار التنوير الأوروبية. وأطلق على المرحلة الجديدة (عصر النهضة)، التي كان أول أعمدتها رفاعة الطهطاوي، الذي أرسله محمد علي للدراسة في الغرب. وجاهدت حزمة من المثقفين العرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من أمثال محمد عبده وقاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي، لطرح أفكار التنوير الغربي، بغية تغيير الواقع العربي البائس، ولكن دون أن يحدث شيء يذكر.