على بعد كيلومترين من نهر الفرات بالقرب من الحدود العراقية السورية، بقيت مملكة ماري، التي بنيت سنة 2900 ق. م، ضائعة بين رمال الصحراء لزمن طويل. وكغيرها من الممالك والمدن السورية، فإنّ أمر اكتشافها تمّ بمحض الصدفة البحتة.
فكما عثر فلاح على (أوغاريت) خلال فلاحته لبستان الحمضيات في الساحل السوري، كذلك (دورا أوروبوس)، اكتشفتها مجموعة من الجنود كانوا يحفرون خندقاً، فيما مملكة ماري - الذي شكّل تاريخها الإنساني والمعماري مداراً لكتاب الباحث العراقي رحيم هادي الشمخي - فقد عثر عليها بعض البدو حينما كانوا يحفرون قبراً لدفن أحد موتاهم في منطقة تل الحريري شمال غرب مدينة البوكمال بعشرة كيلومترات سنة 1933م، ثم ليكشف الباحث الفرنسي أندريه بارو أواخر سبعينيات القرن الماضي لغز ماري التي كانت ذات حينٍ أهم ميناء على نهر الفرات، قبل أن يبتعد مجراه اليوم عنها مسافة كيلومترين، النهر الذي منحها مكانة تجارية ضخمة أسست لقيام مجتمع مدني حضاري متطور.
يذكر الباحث الشمخي في كتابه (مملكة ماري، فردوس الفرات) أن موقع المدينة – كلّ المدن السورية القديمة كانت ممالك- يأخذ شكلاً بيضوياً تجري في جنوبه مجموعة من الوديان الصغيرة، ويُحيط بها سور لحمايتها؛ كانت قد بُنيت وفق مخطط عمراني متطور فيه منشآت مائية وملاحية كثيرة، وكان الهدف من بناء المدينة مراقبة الطريق التجاري الذي يتبع مسلك الفرات. ويُعتقد أن سكان المملكة بلغ عددهم عشرين ألف نسمة، حيث بلغ قطرها كيلومترين. وكانت بيوت ماري مصنوعة من اللبن، وتُشبه البيت الدمشقي. أما عن طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فهناك جمعيات ونقابات وتنظيم وصل إلى درجة كبيرة من التقدم، حتى وجود غرفة تجارة "كاروم" والكثير من الفرق الموسيقية.
أهم المعالم المعمارية في ماري بعد قصر الملك، كانت معابد الآلهة التي تنوعت وتعددت، وكانت أبرزها آلهة الينبوع ذلك التمثال الصغير الذي وضعت صورة له الحكومة السورية على عملتها من فئة الخمس ليرات السورية الورقية. وهناك إلهان من أبرز آلهة المملكة هما: "عشتار" التي عرفتها مختلف المدن في بلاد الشام والعراق، وكذلك إله الحبوب "دجن" الذي يحتل المرتبة الأولى في نسق الألوهة المارية، ورغم إنه يعني الغيم المطبق والمطر الكثير، إلا إن "المفردة" لا تزال إلى اليوم تُردد في أحاديث السوريين، والتي تعني الخبز في الغالب، وهذا ما انتشر في مختلف البلاد السورية، عندما نقول "ما ذقت الدجن، أو ما في ببيتي الدجن" الذي يعني الخبز. ومثل هذه المفردات سنجد منها الكثير، وهي لا تزال طازجة كما قُيلت منذ آلاف السنين السورية. الأمر الذي يؤكد أنّ العربية هي لهجة متطورة من اللغات السورية القديمة، أو هي خلاصتها الأخيرة لا سيما الآرامية.
ونُشير هنا إلى أن لغة ماري في الألف الثالث قبل الميلاد، كانت تتكون من لهجة مارية مع السومرية التصويرية، وكانت الذهنية الاعتقادية في ماري العمورية، تُنوّع في تعدد الآلهة. ويمنح فيض المعابد وتعددها، دليلاً على تعايش اجتماعي ساعد في ازدهار المملكة. وهنا أيضاً لا بد من التذكير بمغنية المعبد "أورنينا" التي يعتقد الباحثون أنها أول من غنت في العالم 3500ق.م، وذلك خلال حفلاتها في معبد عشتار. كما أن أكبر الرسومات الجدارية في ماري، هي رسم مشهد تنصيب "زمري ليم" أشهر من حكم المملكة المتزوج من امرأة حلبية كان لها شأن عظيم في ازدهار المملكة وفي تجارتها وتنظيم شؤون نسائها وحمايتها من الأعداء.
----