يؤكد غاستون باشلار بأن العلم يقرّب الناس بعضهم من بعض، بينما تقوم الأهواء والمصالح والمفاهيم بتفريقهم، لأن العلم يستخدم الأدلة العقلية والبراهين المنطقية المستقلة عن العوامل الشخصية والذاتية. إذاً، إن العلم شراكة إنسانية، ويؤكد تاريخ العلم امتداد ووحدة النشاط الإنساني البحثي لتوليد المعرفة. إن تاريخية العلم تؤكد عالميته.

بدأ العلم الحديث مواكباً للثورة العلمية على شكل إنجازات في مجال الفكر الإنساني، اقترنت بأسماء: كوبرنيكوس، وغاليليه، وكبلر، ونيوتن، وديكارت، وليبنتز. وفي ذلك الوقت أرسيت للمنهج العلمي عدة قواعد لا يزال معظمها قائماً كسمات مميزة للعلم. وإن روافد المعرفة التي انبثق منها المفهوم السائد للعلم في عصر الثورة العلمية كانت: الفلك والرياضيات والميكانيكا.. وإلى الآن لم يحدد الدور الذي أسهم به فكر هذه المدرسة في صنع الإطار الأساسي لهذا العلم الفيزيقي. وإن كان أنه من المؤكد أنه لعب دوراً رئيسياً في تشكيل فكر "ديكارت". ولقد كانت المثل التي احتذاها هذا العلم المنطقي الجديد هي: الموضوعية، والتجريب، والاستقراء، مع استبعاد مخالفات الفكر الميتافيزيقي من اجتهادات ذات طابع أسطوري لتفسير الظواهر التي يستعصي فهمها بالمنطق الفيزيقي[1].

وبدءاً من العصور الوسطى حتى يومنا هذا، تزايد استخدام المعرفة العلمية من أجل تغيير العالم، ومنح البشر سيطرة أكبر عليه. وإن بناء العوالم التي نعيش فيها الآن هي جزء كبير من حياتنا. لقد غيَّر انتشار التكنولوجيا العالم اليومي للبشر تغييراً أكثر جذرية من أي شيء آخر في القرون القليلة الأخيرة. وهذا الانفجار التكنولوجي يعتمد على البحث العلمي ويشجع عليه في آنٍ واحد. ولقد شهد القرنان السادس عشر والسابع عشر تحولاً خاصاً نحو استخدام المعرفة والدراسة العلمية في مواجهة المشكلات والاحتياجات المعاصرة[2].

التفكير العلمي.. كارل ساغان

وصل العلم في زماننا إلى مرتبة رفيعة، ورغم ذلك فإن العالم اليوم يمر بمرحلة صعبة، من السياسة إلى الاقتصاد ومن الثقافة إلى الاجتماع، ومن أحداث تجري في سرعة مذهلة، وبعضها يمر كالشهب، دون فرصة للإبصار أو قدرة على الإدراك[3].

إن الثورة العلمية الراهنة هي محصلة تاريخ العلم، وأدى هذا التطور إلى انكماش الزمان والمكان، وحلت مقاييس جديدة، فأصبح المريخ على بعد دقائق من الأرض، وأصبح بمقدور العلم أن يعبر إلى داخل الثانية تفتيتاً وتجزيئاً، إلى واحد من مليون على بليون منها[4].

كل هذا يجعل الإنسان في وضع جديد، وضع يحتم عليه أن يسرع في فهم ما يجري، وأن ينطلق بقوة أكبر في الزمان، كي يفهم طبيعة هذا العصر شديد التغير والتبدل.

المعرفة العلمية

تتكون المعرفة لدى الإنسان نتيجة لمحاولاته الدائمة لفهم ما يحيط به، وللإجابة على التساؤلات الكبيرة التي تؤرقه. ويكون الواقع في الغالب هو مصدر المعرفة، إلا أن لها مصادر أخرى. وتقسم المعرفة بناء على ذلك إلى: معرفة علمية، ومعرفة غير علمية. ويقصد بالمعرفة العلمية، تلك الأفكار والتصورات والمعاني التي يتم اكتسابها بطريقة منظمة باستخدام المنهج العلمي الذي يقوم على الملاحظة والبحث والتجريب. والمعرفة العلمية الرزينة لا يمكنها أن تعتمد على التجربة البسيطة، وإنما على التجريب العلمي المحكم، لأن التجربة العلمية هي منطلق النظرية ومنتهاها.

ولا يمكن للمعرفة العلمية أن تقوم من دون أن يقوم العالم بالتجريب العلمي المحكم القائم على قواعد وقوانين ومنهجية. فعلى العالم أن ينطلق من ملاحظة ظاهرة أو حادثة فيزيائية معينة ليضع فكرة أو افتراضاً هو بمثابة تفسير موقف لهذه الظاهرة، يستلزم إخضاعه لاختبار تجريبي من خلال توفير شروط إعادة بناء الظاهرة الطبيعية داخل المختبر، لينتقل إلى استنتاج القانون العلمي الذي يلزم تعميمه على جميع الظواهر المشابهة للظاهرة المدروسة.

تجمع العقلانية العلمية بين العقل والتجربة في صناعة المعرفة العلمية المعاصرة. إذ لا يمكننا فهم عمل العلم وإدراك قيمته الفلسفية إلا في ضوء فهم العلاقة الجدلية بين العلم والواقع.

التفكير العلمي

ولا يزال العلم الحديث يتتبع الكثير من تساؤلات الفلاسفة الطبيعيين في الفترة الحديثة المبكرة، وأهدافهم التي ورثوا بعضها عن العصور الوسطى أو ربما العصور القديمة؛ فعلى خطى جاسيندي وديكارت وفان هيلمونت، لا يزال علماء الفيزياء المعاصرون يبحثون في الدقائق النهائية للمادة كي يفهموا كيفية اتحاد دقائق الكون غير المرئية وتفاعلها من أجل تشكيل العالم. وعلى خطى كبلر وكاسيني وريتشيولي، لا يزال علماء الفلك المعاصرون يفحصون السماء ويرسمونها فيعثرون على أشياء وظواهر جديدة، بفضل استخدام أجهزة تفوق في تنوعها وقوتها الرُّبعيات والتليسكوبات التي استخدمها تيكو أو غاليليه أو هفيليوس. أما المستكشفون في إسبانيا الجديدة، مثل هرنانديز ودا كوستا، فلديهم ورثة من العلماء الذين يواصلون البحث عن أدوية جديدة في النباتات والحيوانات التي تعيش في الغابات والأدغال والصحاري، أو عن صور جديدة للحياة في أعماق المحيطات المظلمة، وحتى على الكواكب البعيدة. وعلى خطى الأسلاف والمؤمنين بتصنيع الذهب من المعادن الرخيصة، يبذل علماء الكيمياء قصارى جهدهم من أجل تعديل المواد الطبيعية وتحسينها، واستحداث مواد جديدة، مُواصِلينَ طموحات بويل في فهم تغير المادة، وطموحات بيكون في تقديم أشياء مفيدة للحياة البشرية. وعلى خطى فيزاليوس ومالبيجي وليفينهوك، يستكشف علماء الأحياء والأطباء المعاصرون أجسام الحيوانات والبشر باستخدام أدوات جديدة، فيُظهرون في أثناء ذلك التراكيب الأكثر دقة وآليات العمل الأكثر إثارة للدهشة؛ فكل جهاز إلكتروني جديد يظهر في الأسواق ينعش ارتباطات التكنولوجيا بالعجائب ومثيرات الدهشة[5].

الثقافة العلمية

تهدف الثقافة العلمية إلى أن يتبنى الناس المنهج العلمي في مقارنتهم لشؤون الحياة وظواهر الكون. ويقول الدكتور فؤاد زكريا في مستهل مقدمته لكتاب (التفكير العلمي): "ليس التفكير العلمي هو تفكير العلماء بالضرورة". ويقول العالم كارل ساغان: "العلم هو أكثر من مجرد كمّ من المعلومات، إنه أسلوب في التفكير. إنني أقول في كل مرة نمارس فيها نقد الذات وفي كل مرة نختبر فيها أفكارنا مع العالم الخارجي، فإننا نمارس العلم"[6].

يقوم المنهج العلمي في أساسه على ملاحظة الحياة والكون المحيط، ثم محاولة تفسير تلك الظواهر عن طريق وضع فرضيات واحتمالات لأسبابها، لكنه لا يتبنى تلك الفرضيات، مهما كانت معقوليتها، إلا بعد إخضاعها للتجارب والاختبارات. فإذا توقفت التجربة مع الفرضية، صحّت النظرية. وإلا فإنه يجب إعادة النظر في الفرضية والنظرية. ويجب على التجربة العلمية أن تكون قابلة للإعادة، وأن تعطي نفس النتائج مهما كان الزمان والمكان[7].

بينما يقدم العلم منظومة تراكمية غير مطلقة، تحمل في طياتها احتمالات الخطأ، وتحمل أيضاً، كما يقول كارل ساغان "آلية لتصحيح الأخطاء". ويقول غاستون باشلار: "العلم يقرّب الناس بعضهم من بعض، بينما تقوم الأهواء والمصالح والمفاهيم بتفريقهم، لأن العلم يستخدم الأدلة العقلية والبراهين المنطقية المستقلة عن العوامل الشخصية والذاتية". إذاً، إن العلم شراكة إنسانية، ويؤكد تاريخ العلم امتداد ووحدة النشاط الإنساني البحثي لتوليد المعرفة. إن تاريخية العلم تؤكد عالميته. ويمكن التأكيد على أن البحث عن المعرفة العلمية، هو بذرة العولمة في براءتها الأولى[8].