قدمت مجموعة من الرؤى الابتكارية لدراسة وتحليل الواقع الحالي لثلاثة أحياء من مدينة دمشق، بهدف الوصول إلى أحياء سكنية حيوية، تلبي متطلبات المجتمع والتنمية، بما ينعكس إيجاباً على حياة الأفراد ومعيشتهم.

ينبغي أن يكون مفهوم المكان مفتوحاً للدراسة والتجريب، بهدف الوصول إلى عالم أفضل بالتعاون مع خبرات علمية مختلفة. ولأن مدينة دمشق محط أنظار الكثير من الباحثين وطلاب الدراسات العليا في الأقسام المختلفة في المعهد العالي للتخطيط الإقليمي بجامعة دمشق، وخاصة بعد أن بدأت تظهر عليها إشكاليات التخطيط والتغيرات الديموغرافية التي ظهرت بشكل واضح مع انعكاسات وباء كورونا حيث أثبت نظام التخطيط والتنظيم المعتمد في أحيائها العجز عن تلبية متطلبات المجتمع المحلي، فقد انطلقت الدراسات لتقديم رؤية ابتكارية عصرية تليق بمدينة دمشق كعاصمة تتمتع بنفوذ تاريخي، كونها أقدم مدينة مأهولة.

اعتمدت الرؤى الابتكارية المقدمة من الباحثين على دراسة وتحليل الواقع الحالي لثلاثة أحياء من المدينة هي ( حي المزة شيخ سعد، وحي القصاع، وحي مساكن برزة) لإيجاد الحلول المناسبة للمشكلات المتعلقة بالتوزع العشوائي للكتل البنائية والمساحات الخضراء والأرصفة والشوارع ومشكلات النقل، بهدف الوصول إلى أحياء سكنية حيوية، تلبي متطلبات المجتمع والتنمية، بما ينعكس إيجاباً على حياة الأفراد ومعيشتهم.

شذا إسماعيل2

تحدثت الدكتورة ريدة ديب عميدة المعهد العالي للتخطيط الإقليمي، عن أن العمل على تقديم رؤية علمية عصرية لبعض أحياء مدينة دمشق، استمر لأكثر من ستة أشهر، بحث فيها المشاركون بطرق متعددة التخصصات كيفية صناعة المكان ألتشاركي ودمج وجهات نظر الزوار والسكان المحليين والاختصاصيين، وقام الطلاب بدراسة جوانب مختلفة من مبادئ "أحياء 15 دقيقة"، والتي تضم متطلبات التصميم العمراني والنقل والمحطات العامة وآفاق تطورها والبعد الثقافي والاقتصادي للمكان.

وأشارت ديب إلى أن كل دول العالم بدأت في المرحلة الحالية تأخذ سياسات تخطيطية جديدة وخاصة بعد جائحة فيروس كورونا التي فرضت تطبيق قيود معينة، ما دفع البعض إلى إطلاق نهج جديد عرف باسم "أحياء 15 دقيقة"، بما يمكن المواطن من تأمين احتياجاته كافة خلال 15 دقيقة فقط ضمن الحي الذي يسكنه.

لمى كاخي3

وأوضحت ديب أن إدارة المعهد وطلابه أخذوا هذا النهج ومبادئه، وحاولوا اختبار إمكانية تطبيقه على أحياء دمشق والمدن السورية، بهدف الارتقاء بجودة الحياة في هذه الأحياء وتحقيق كفايتها الذاتية ومحليتها ومشاركتها مع الأحياء المجاورة، حيث تمكن الباحثون من إجراء تحليل مفصل ودقيق للسياق الحضري المطلوب، وتقييم الاستراتيجيات والتدخلات البديلة خلال ورشة عمل جرت على مدى ستة أشهر، بالتعاون مع قسم العمارة والتخطيط في جامعة دندي البريطانية.

يقول الدكتور حسام الوعر المدير في برنامج التخطيط العمراني بجامعة دندي، إن أحياء دمشق سابقاً كانت أفضل اجتماعياً وبيئياً ومساكنها متجاورة بشكل صحي، ولكن التكتلات والتراكمات العمرانية وزيادة التعقيدات الحضرية، أثرت سلباً من حيث نقص المساحات الخضراء ونقص المساحات التفاعلية. لذلك كان من الذروري دراسة كيفية تطبيق نهج الـ 15 دقيقة للمحافظة على الثقافة والهوية وتطورها مع الحفاظ على الخصوصية المكانية.

يارا حمزة4

وتابع قائلاً إن الدراسات التي أجريت على الأحياء، تكشف إن كان بإمكاننا إعادة توزيع لامركزي للاستثمارات والخدمات والطاقة وفعالية تنظيم الحياة، وفقاً لأحياء الخمس عشرة دقيقة، ومدى ترحيب المجتمع بها، وهل يمكننا كمخططين تحقيق المتطلبات الخدمية لحي حضري خلال نصف قطر زمني محتمل.

من جانبها تبين الدكتورة غادة بلال نائب عميد معهد التخطيط الإقليمي: أن طلاق مخرجات ورشة عمل دمشق 2040 لتصبح مدينة أحياء الخمس عشرة دقيقة، هو نهج ابتكاري يأتي ضمن الخطة العلمية للمعهد العالي للتخطيط الإقليمي لتدريب طلاب الماجستير من اختصاصات مختلفة للعمل ضمن فريق علمي بحثي للوصول إلى نقاط تحليلية، يمكن أن تنخرط بشكل نقدي مع الآخرين. وقالت إن فكرة الورشة التطبيقية جاءت إثر انتشار وباء كورونا وسوء التخطيط الذي لم يخدم هذه الأزمة من مستلزمات الوصول وتأمين الاحتياجات خلالها، وهذا استلزم من كل دول العالم تطبيق هذا النوع من الدراسات، وهي أحياء ضمن 15 دقيقة، بحيث يستطيع المواطن ضمن الحي تأمين كل مستلزماته.

وأشارت بلال إلى أن الطلاب قدموا رؤية لتنفيذ مفهوم مدينة أحياء 15 دقيقة على نماذج أحياء في مدينة دمشق، وذلك بهدف الوصول أحياء سكنية حيوية تتمتع بزيادة الكثافة والتنمية متعددة الاستخدامات بجانب وسائل النقل المحلية الفعالة، وتحسين النقل النشط من خلال جعله آمناً يسهل الوصول إليه، معتمدين في ذلك على الدراسات التخطيطية وفق منهجية علمية تخدم مسيرة التنمية.

المشرفة العلمية شذا إسماعيل أستاذة بالمعهد العالي للتخطيط الإقليمي للمشروع، بينت أن العمل بدأ بسلسلة من المحاضرات العلمية، ومن ثمة إشراف كامل لشرح المفاهيم الجديدة وإسقاط هذه المعلومات على الأحياء المختارة باستخدام أدوات القياس البحثي، وذلك لوضع صورة لمدينة دمشق في عام 2040 ضمن خطة زمنية تبدأ من الوقت الحالي حتى ذاك التاريخ، وأن الدراسة الحالية تشكل إسقاط أولي ليتشارك فيه صناع القرار.

تحدثت الطالبة الباحثة آلاء إبراهيم، ماجستير في التخطيط الهيكلي الحضري، بأنهم ركزوا في مشروعهم على حي المزة شيخ سعد؛ حيث جرى رصد الوضع الراهن في الحي وتوضع الاحتياجات الرئيسة وأماكن ازدحام السيارات والمشاة، وتمّ جمع التفاصيل ودراستها للخروج بمخطط أساسي اسمه حركة المجتمع. وبينت لمى كافي المهندسة المعمارية وطالبة ماجستير بالمعهد، أن العمل في دراسة منطقة الشيخ سعد اعتمد على جمع المعلومات بشكل ميداني وتحليل المخططات، مشيرة إلى افتقار المنطقة للمساحات الخضراء ووجود الازدحام وضيق الأرصفة، وهي مشاكل لوحظت بالدراسة.

تحدث كنان القاسم ماجستير في التخطيط اللوجستي الإقليمي، عن حي مساكن برزة؛ حيث قاموا بجمع المعلومات اللازمة لدراسة الحي بشكل ميداني، بالاستفادة من الخبرات العملية لجامعة دندي، وتحديد نقاط القوة والضعف في التخطيط الحضري للمنطقة والمشكلات المرتبطة بالبنية التحتية، وتموضع بعض الحلول التي يمكن أن تكون سريعة وفورية وفعالة وقليلة التكلفة.

وحول بعض الملاحظات التي تتعلق بالمشاكل الحركية والعمرانية، قالت يارا حمزة المشاركة بالعمل في حي مساكن برزة، إنه توجد تقاطعات كبيرة ولا يوجد أماكن منظمة للسيارات أو المشاة، على الرغم من أنها منطقة تنظيمية، وهناك تعدّ كبير على الأرصفة. لهذا اعتمدت الدراسة على الواقع في وضع الحلول ضمن مراحل زمنية للعمل.

وركزت الطالبة هدى خليفة ماجستير في التخطيط الهيكلي الحضري وزملاؤها على حي القصاع، موضحة أنهم رصدوا المشكلات في الشارع الرئيس ضمن الحي، ووضعوا برامج لتخفيف الازدحام وتفعيل الشوارع المجاورة.

اعتمد الطلاب في اختيار حالات الدراسة على معايير القرب من مركز المدينة وعلاقة الحي بالأحياء المجاورة والسياق التاريخي لها، واستخدموا أسلوب التحليل الرباعي والتوصل إلى نقاط الضعف والمسح السكاني، واستبيان الرأي المجتمعي، وصولاً إلى فرص التحسين وتحديد المستفيدين.

بيّن الطلاب في أبحاثهم الثلاثة الهدف العلمي والإشكالية التخطيطية، ومنهجية العمل التي اعتمدوها، ومعايير اختيار الأحياء، وجلسات التشاور التي جرت خلال الورشة، متمنين أن تصل مخرجاتهم للمعنيين وأصحاب القرار، لتكون مشاريعهم قابلة للتطبيق والعمل على تطويرها، بناءً على المعطيات القانونية والمكانية.