أطلقت منظمة الصحة العالمية نداءات عالية المستوى، تحذيراً من الإفراط في استخدام المضادات الحيوية، وذلك لدورها الفاعل في إضعاف الجملة المناعية.

يتجه العالم اليوم بأسره للمطالبة بترشيد استخدام المضادات الحيوية، والتي تعد من أكثر أنواع الأدوية استهلاكاً حول العالم بعد مسكنات الألم الاعتيادية التي توصف لعلاج الصداع وآلام الجسم والبرد وغيرها. ونظراً للمخاطر الكبيرة التي أظهرتها الدراسات الناتجة عن الإفراط والعشوائية في تناول المضادات الحيوية، أطلقت منظمة الصحة العالمية نداءات عالية المستوى بحيث تصل إلى أبعد نقطة طبية في المجتمعات على اختلافها تحذيراً من الإفراط في استخدام المضادات الحيوية، التي تساهم في سرعة حدوث المقاومة وخاصة عندما لا يكون العلاج مناسباً.

تبين مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها: إن ما يقرب من ثلث إلى نصف استخدامات المضادات الحيوية عند البشر غير ضروري أو غير مناسب. وتبين الأبحاث الحديثة أنه بحلول عام 2050 هناك توقعات بأن تحصد المشاكل الناتجة عن الصادات الحيوية حوالي 10 مليون وفاة، وبتكلفة 88 تريليون دولار.

د. لمى يوسف

تحذيرات وحقائق

د. وفاء كيشي

تؤكد نقيب صيادلة سورية الدكتورة وفاء كيشي أن المضادات الحيوية تعالج العدوى البكتيرية وليس العدوى الفيروسية. فعلى سبيل المثال؛ المضاد الحيوي الموصوف لعلاج التهاب الحلق الذي تسببه البكتيريا العقدية المقيحة، ليس علاجاً صحيحاً لمعظم التهابات الحلق، التي تسببها الفيروسات، فتتشكل لدى المريض عدوى فيروسية أخرى لا تستفيد من العلاج. مشيرة إلى الأخطاء الشائعة في استخدام الصادات الحيوية لدى الناس على اختلاف أعمارهم كاستخدام الصادات المتبقية في المنزل، أو التي تأخذ من شخص آخر، أو مباشرة من الصيدلية دون وصفة طبية.

وعليه بينت الكيشي أن المسؤولية المضاعفة التي تقع على كاهل الصيادلة في هذا المجال، لكونهم معنيين بشكل مباشر بتقديم الرعاية الصحية للمرضى، إضافة إلى إشكالية الصرف العشوائي للصادات الحيوية دون وصفات طبية. وأوضحت كيشي أهمية التصدي لهذه المشكلة الكبيرة، ليس فقط من حيث استخدامها الخاطئ لدى الإنسان، بل يضاف إليها الاستخدام الخاص بالدواجن والحيوانات وما ينتج عنها من ظهور لجراثيم مقاومة "خارقة". الأمر الذي يستوجب التعاطي مع الصادات الحيوية كالتعاطي مع الأدوية النفسية لجهة التشدد في صرفها، وضرورة تضافر جميع الجهود من وزارات ونقابات وجامعات ومقدمي الرعاية الصحية، للوصول إلى خطة وطنية متكاملة لمنع هذا النزف الصحي والاقتصادي الحاصل.

بيت الداء والدواء

ويرى الدكتور غسان شنان، رئيس هيئة مخابر التحاليل الطبية في سورية، أن النتائج السلبية لاستخدام الصادات الحيوية بشكل جائر، يقضي بالدرجة الأولى على الأحياء الدقيقة والجراثيم المفيدة التي تعيش في الجهاز الهضمي للإنسان، مقابل قضائها على جراثيم غير موجودة أساساً، منوهاً إلى مخاطر صرف الصادات الحيوية من قبل الصيادلة والأطباء دون ضرورة، إضافة إلى التكلفة العالية لإنتاج هذه الأدوية، أدى إلى عزوف الكثير من شركات الأدوية عن الاستثمار في هذا المجال. وأشار إلى ما يحمله المستقبل من مخاوف كبيرة لجهة عدم توفر صادات ومقاومة شديدة للجراثيم القادرة على تكوين أضداد للدفاع عن نفسها، وكذلك تأثير الصادات الحيوية في مكونات الجملة المناعية، وبالتالي هناك حاجة دائمة للجديد في القضاء على الجرثوم.

خطره على البشرية

توضح الدكتورة لمى يوسف عميد كلية الصيدلة بجامعة دمشق، خطر الاستخدام المفرط للصادات الحيوية على الناس قائلة إن إساءة استخدام المضادات الحيوية كمحاولة لمعالجة مشكلة مرضية واحدة قد تكون سبباً في خلق مشكلات مرضية أخرى. وهي واحدة من أكبر التهديدات التي تواجه المجتمعات اليوم. ومن هنا يأتي أهمية النداء الذي تم إطلاقه بأن (المضادات الحيوية تفيد عند اللزوم وتتسبب بالأذى إن لم يكن لها لزوم)، وخاصة بعد أن كشفت الدراسات عن ظهور سلالات جرثومية مقاومة للصادات الحيوية، تشكل خطراً كبيراً على البشر وقدرتهم على التصدي للأخماج الجرثومية المحيطة بهم.

ولفتت يوسف إلى الحجم الكبير للمشكلة وفقاً للتقارير الصحية العالمية لعام 2019 والتي تبين ظهور 2 مليون و800 خمج مقاوم للصادات الحيوية المتواجدة في العالم، حيث أصبحت مقاومة الصادات مرئية لدى أبسط الأخماج. في الوقت الذي لم تعد هناك شركات أدوية تعمل على اكتشاف صادات حيوية جديدة. وعليه فهي ترى أن درهم وقاية خير من قنطار علاج، وعلى المريض ألا يطلب صادات حيوية عندما يكون الخمج بسيطاً أو عندما يكون فيروسياً، لأن تناول المضاد الحيوي في حالة وجود عدوى فيروسية، لن يشفي من العدوى ولن يحمي الأشخاص الآخرين، بل يتسبب في آثار جانبية ضارة.

عترات جرثومية

لا تتوقف المشكلة عند ما يتناوله الإنسان من صادات حيوية، فهناك مشكلة أكبر تحدث عنها الدكتور محمد المسالمة الطبيب البيطري والباحث في الصحة الحيوانية حول تأثير الاستخدام المكثف والعشوائي للصادات الحيوية في الصحة الحيوانية في نشوء عثرات جرثومية مقاومة عند الإنسان. ومن الحقائق العلمية التي ذكرها لنا حول أهمية الميكروبيوم هي أنه أكثر من 8 ملايين جين فريد هو على ارتباط وثيق بجسم الإنسان، وأن هذه الميكروبيومات تعلب دوراً هاماً في مختلف الأمراض، كما أن لها دوراً في المناعة والتغذية والسلوك. ولكون الإنتاج المتسارع للدواجن وتسمين الحيوانات يعرضها لحالة ضعف مناعي تستوجب استخدام مجموعة من المضادات الحيوية من أجل صد هجمات جرثومية متتالية، فإن ظهور المقاومة للصادات الحيوية التي تظهر في دورة التربية، قد تنتقل إلى الإنسان عند استهلاكه لهذه المنتجات، وبالتالي العوامل الممرضة للإنسان قد يكون مركزها عند الحيوان.

يبين المسالمة أن الاستخدام العشوائي للمضادات الحيوية لدى المربين وبشكل مكثف دون القيام بأي اختبار للحساسية، يؤدي إلى نشوء عثرات مقاومة عند الحيوان، وخاصة أن الاستخدام الأساسي للمضادات الحيوية لدى التربية الحيوانية يستخدم كمحفز نمو وليس كمعالج لحالة مرضية. وهذا ينتج عنه تغيير الفلورة المعوية لدى الحيوانات التي تسبب بظهور العثرات المقاومة، وإلا لما بقيت الجراثيم الممرضة داخل الأمعاء التي تنتقل بدورها إلى الإنسان. فعلى سبيل المثال تستخدم الصادات الحيوية مع الأعلاف من أجل ضبط عملية النمو والتسمين، وعليه فإن الطائر أو الحيوان يتناول المضادات على مدى 24 ساعة لمدة خمسة أيام، وكذلك مع استخدامه في الأعلاف بشكل متواصل. ولهذا انعكاسات خطيرة، وإذا لم يخضع الحيوان لعملية سحب للمادة، فإن هذه الأمراض تنتقل إلى الإنسان عن طريق الغذاء.

نداء عالمي

يتفق العالم اليوم على أن الجميع شركاء في هذه الحملة من عامة الناس ومن الأطباء والمستشفيات، لضمان الاستخدام السليم للأدوية والتقليل من تطور مقاومة المضادات الحيوية، وذلك لما يسببه هذا الموضوع من انتشار بكتيريا تقاوم العلاج، ويمكن أن تتكاثر وتنجو من علاج المضادات الحيوية وتنقل خصائص مقاومتها للمضاد الحيوي. كما أنه يمكن لبعض البكتريا أن تنقل خصائص مقاومة الدواء إلى البكتيريا الأخرى، وكأنها تمرر ورقة للغش كي تساعد غيرها على النجاح والحياة.