يشير المؤرخ الصيني "وو بن" إلى أن "الصين" قبل 1949 كانت تنتمي إلى الدول المتأخرة في شتى المجالات، وأن التحديث الصيني كان يحتاج إلى سلطة الدولة القوية الموحدة والمستقلة، وتعزيز مستوى الوحدة السياسية والاجتماعية الداخلية، كذلك تكريس الظروف الملائمة في كل أنحاء "الصين" لتأييد مسيرة التحديث.

لقد برهن "ماو تسي تونغ" على قدرته هو ومن تبعه، على النهوض بعمليات تعبئة الفلاحين وتنظيم صفوفهم، وهي العمليات التي تم تأييدها بفضل إجراءات الإصلاح الزراعي التي كان "ماو" قد بدأها في ذلك الوقت، وهكذا تهيأت له فرصة هامة للعمل مع الفلاحين، ما أمدّه بمبررات قوية للتمسك بمقولاته التي تخص دورهم الثوري.

ويمكن تناول إنجازات "ماو" الاقتصادية من محورين، الأول الإصلاح الزراعي الذي تبناه، ويهدف إلى رفع المستوى المعيشي للسواد الأعظم من فلاحي "الصين" الذين يمثلون أكثر من 80 بالمئة من السكان، ثانياً تحديث الصناعة الصينية من وجهة نظر "ماو"، تمثلت في تغيير ملامح "الصين" من بلد زراعي في المقام الأول، إلى بلد صناعي يصنع الطائرات والسيارات وغيرها من الصناعات المتقدمة، إلى جانب الأسلحة الحربية خاصةً النووية، ما يعكس ذلك على مدى التقدم الصناعي في "الصين"[1].

في العام 1950 وعلى الصعيد الزراعي أصدرت الحكومة الصينية قانون الإصلاح الزراعي، بهدف تحويل الأراضي من أيدي الإقطاعيين إلى ملكية خاصة للفلاحين، وبهذا يتمكن من ضمان تحرير الفلاحين من علاقات الأراضي الإقطاعية، وتوفير الظروف المناسبة لتحويل "الصين" من بلد زراعي إلى بلد صناعي، وقد بذلت حكومة "ماو" جهوداً ضخمةً لصيانة موارد المياه وتجنيب أضرار الفيضانات، وتوفير مياه الري، واستغلال المياه في توليد الكهرباء، فأقيمت السدود وشيدت الجسور، وشقت القنوات.

وبعد عام 1958 أعلنت الحكومة الصينية تنفيذ خطة زراعية أدت إلى إصلاح 15 مليون هكتاراً من الأراضي الزراعية في فترة وجيزة، ووجدت التنظيمات التعاونية نفسها أمام طفرة مفاجئة من الأرض، وسرعان ما حظيت التنظيمات المندمجة بتأييد الرئيس "ماو" ومدّها بالقروض المالية، وأطلق عليها اسم "الكوميونات"، وهكذا بدأت تتجه أنظار العالم نحو "الصين" لمعرفة ما هو "الكوميون الصيني".

وعلى الصعيد السياسي جسّدت "الكوميونات" مبدأ اللامركزية في العمل الإداري، وإدارة الأنشطة التجارية، وإقامة المرافق، وبناء المدارس والمستشفيات[2].

أما صناعياً، ومن منطلق اهتمام الحكومة بإحداث نهضة صناعية، قامت بوضع خط التنمية للنهوض بالإنتاج الصناعي، والتغلب على المشاكل التي تعوق النهضة الصناعية، ذلك من مبدأ إيمان "ماو" بأن التصنيع هو أسرع السبل نحو التنمية الاقتصادية، ويشتمل التصنيع على سرعة التكنولوجيا والتنظيم التي أدهشت الإنسان وغيرت من طريقة الإنتاج وأسلوب المعيشة، كما أطلقت الحكومة الصينية شعار (الزراعة عامل أساسي والصناعة عامل قيادي).

كما ركزت "الصين" على الزراعة والصناعات الصغيرة، ثم الصناعات الثقيلة، وهي تفعل ذلك لطبيعتها الزراعية البحتة، ولأسباب كامنة في أعماق القادة الصينيين، وهي الخوف من المجاعة ونقص الغذاء، لذلك رأى "ماو" أن التقدم في الإنتاج الزراعي والتجارة الخارجية مع العالم والصناعات الصغيرة التي تطلبها الدول النامية المجاورة "للصين" ضرورة قومية بحتة.

وبدأت الصناعة الحديثة مع الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن 18 حيث اعتبر الإنسان أحد المحركات الأساسية لزيادة النمو الصناعي.

ووضعت الحكومة الصينية بقيادة "ماو" الصناعات الصغيرة في أولويات تنظيمها للهيكل الصناعي، وشجعت على انتشارها في أنحاء "الصين" نظراً لأهميتها ولأنها لا تستوجب اعتمادات مالية ضخمة، ويؤكد الاقتصادي الصيني "يونغ لونغ كوى" على أهمية الصناعات الصغيرة ودورها في التنمية الاقتصادية الصينية بأنها ساهمت في توفير فرص العمل وتحقيق معدلات مرتفعة من الإنتاج، وأسهمت بتخفيض الواردات وتنمية الصادرات[3].

إلى جانب ذلك، أعطت "الصين" أهميةً متزايدةً للصناعات الثقيلة، خاصةً المتعلقة بالجانب العسكري في بداية استقلالها السياسي والاقتصادي، ذلك تدعيماً للقوة العسكرية. وفي نهاية السبعينيات سبقت "الصين" "فرنسا" و"بريطانيا" كقوة نووية وبدأت مرحلةً جديدةً في مجال التصنيع. وفي ضوء اهتمام الحكومة بالصناعات الثقيلة، زاد إنتاج الحديد والصلب والبتروكيماويات والإسمنت والألمنيوم والفولاذ، كما بدت صناعة السيارات والطائرات والإلكترونيات رمزاً للتطور الصناعي الصيني.

ومنذ عام 1978 تطورت صناعة المعلومات والإلكترونيات والصناعات الدقيقة الخاصة بأجهزة الكمبيوتر والحاسبات بأنواعها، والبرمجة والاتصالات، ودخلت "الصين" إلى طليعة دول العالم في مجال صناعة الأجهزة الإلكترونية، كما أصبحت صناعة الاتصالات ذات قدرة إنتاجية مرتفعة، ودخلت منتجاتها الأسواق العالمية، كذلك أقدمت على إنتاج الأقمار الصناعية بأنواعها والصواريخ والتحكم فيها بالفضاء، وأصبحت من الدول المصدرة لهذه الصناعة[4].

الاستثمار في التعليم

بحلول القرن 19، بدأت بعض الأجهزة التعليمية الجديدة إدخال معارف العلوم الحديثة الغربية وتقديمها في "الصين" بصورة منتظمة، فألغت الأجهزة الجديدة نظام الامتحان الإمبراطوري، وأسست نظاماً تربوياً حديثاً، حيث أصبحت العلوم الحديثة الموضوع الأساسي في التعليم القومي، وظهر أثناء حركة 4 أيار 1919 تيار إدخال المعارف الحديثة وتقديمها ونشرها في النطاق الواسع والنظام الشامل، وانتشرت إنجازات العلوم والتكنولوجيا الحديثة بصورة تدريجية في كل مجالات الإنتاج والحياة، ومنذ ذلك الحين حتى الآن، يزداد انتشار العلوم والتكنولوجيا الحديثة أكثر، وأصبحت الموضوع المهم في إنتاج الصينيين وحياتهم، حيث يؤثر انتشار العلوم وتطورها تأثيراً مباشراً في المفاهيم الثقافية وأسلوب التفكير لدى الصينيين.

وفي "صين" القرن الـ 20 كان إدخال العلوم والتكنولوجيا وتقديمها ونشرها وتطورها شاملاً ومنتظماً، حيث لا يشمل ذلك إدخال وتقديم نظرية التطور والفيزياء الكلاسيكية وعلوم الأحياء والكيمياء، والفلك والرياضيات وغيرها من الفروع العلمية الطبيعية فحسب، بل يتضمن أيضاً علوم الاجتماع والنفس والاقتصاد وعلم الأجناس وغيرها من العلوم الاجتماعية، ناهيك عن إدخال كل التيارات الثقافية الاجتماعية والفلسفية والإنجازات العلمية الغربية الكبرى[5].

أوجدت حركة التحديث في "الصين" البيئة الثقافية والاجتماعية الجديدة، وقدمت إلى حد ما الشروط الموضوعية من أجل إعداد "الصينيين المعاصرين". وهنا يمكن القول إن بيئة الصينيين المعاصرين تشتمل عدة عوامل كان لها تأثير مهم على تحديث حياة الإنسان الصيني، منها تحديث التعليم، فقد أسست نظاماً لتحديث التعليم يشتمل على التعليم العادي والتخصصات العليا، واستمرار تعليم الكبار، وأصبح قبول تحديث التعليم واجباً أساسياً للمواطنين، أيضاً بدأت الصناعات الكبرى بفضل الأجهزة التكنولوجية العلمية الحديثة[6].

-----

المراجع:

[1] ماو تسي تونج العملاق الذي أخرج المارد من قمقمه، وجيه أحمد عبد الكريم، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، ص 103- 104

[2] المرجع السابق، ص 108- 111- 113

[3] المرجع السابق، ص 120- 121- 122- 126

[4] المرجع السابق، ص 127- 128- 129

[5] الصينيون المعاصرون، الجزءالثاني، ووبن، موسوعة المعرفة، ص 215- 216

[6] المرجع السابق، ص 216- 272.