زاد الإنتاج العالمي للمواد الكيميائية خمسين ضعفاً منذ عام 1950، ومن المتوقع أن يتضاعف ثلاث مرات بحلول عام 2050 . بينما يتم تنظيم بعض "الكيانات الجديدة" من قبل الهيئات الحكومية والاتفاقيات الدولية، يمكن إنتاج العديد منها دون أي قيود أو ضوابط.

تنتشر عدة آلاف من المواد الكيميائية والملوثات الاصطناعية التي يصنعها الإنسان في جميع أنحاء العالم، مع دخول ملوثات جديدة إلى الإنتاج طوال الوقت - وفي الواقع، يقول العلماء الآن إننا تجاوزنا عتبة حرجة تزيد من خطر زعزعة استقرار كامل نظام تشغيل الأرض وتشكل تهديداً واضحاً للبشرية.

يوجد حالياً حوالي 350.000 نوع مختلف من المواد الكيميائية الاصطناعية في السوق العالمية، من البلاستيك إلى مبيدات الآفات إلى المواد الكيميائية الصناعية مثل مثبطات اللهب والعوازل. وقد أظهرت الأبحاث أن العديد من هذه المواد الكيميائية يمكن أن تكون لها آثار ضارة على العالم الطبيعي وصحة الإنسان.

تلوث الهواء

عالمة السموم البيئية وباحثة اللدائن الدقيقة من جامعة غوتنبرج في السويد، بيثاني كارني ألمروث، قالت للموقع في مقابلة فيديو: فجوات المعرفة هائلة، وليس لدينا الأدوات اللازمة لفهم كل ما يتم إنتاجه أو إطلاقه أو ما هي تأثيراته، نحن فقط لا نعرف. لذلك نحاول أن ننظر إلى ما نعرفه ونجمع كل قطع الألغاز الصغيرة هذه للحصول على صورة كبيرة أكثر وضوحاً.

في الوقت الذي يحاول العلماء تحديد وفهم تأثيرات المواد الكيميائية والمواد الاصطناعية الأخرى - يشار إليها بشكل جماعي باسم "الكيانات الجديدة"، تقوم الصناعات بضخها بمعدل مذهل. زاد الإنتاج العالمي للمواد الكيميائية خمسين ضعفاً منذ عام 1950، ومن المتوقع أن يتضاعف ثلاث مرات بحلول عام 2050 وفقاً لتقرير نشرته وكالة البيئة الأوروبية. بينما يتم تنظيم بعض "الكيانات الجديدة" من قبل الهيئات الحكومية والاتفاقيات الدولية، يمكن إنتاج العديد منها دون أي قيود أو ضوابط.

تلوث بحري

إن عدم التطابق بين المعدل السريع الذي يتم فيه إنتاج "الكيانات الجديدة" ووتيرة الحلزون التي تقيّم بها الحكومات المخاطر وتراقب الآثار، جعل المجتمع أعمى إلى حد كبير فيما يتعلق بالتهديدات الكيميائية، وهذا ما دفع كارني ألمروث وزملاؤها إلى تقديم حجة قوية في ورقة جديدة نشرت في مجلة "العلوم والتكنولوجيا": لقد اخترقنا "حدود الكواكب" فيما يتعلق بالكيانات الجديدة، مما يعرض استقرار الكوكب الذي نسميه الوطن للخطر.

تعيين حدود الكيانات الجديدة

تم اقتراح مفهوم حدود الكواكب لأول مرة من قبل فريق من العلماء الدوليين في عام 2009 لتوضيح العمليات الطبيعية الرئيسية التي، عند الحفاظ عليها في حالة توازن، تدعم التنوع البيولوجي، ولكن عند التعطيل وتجاوز عتبة معينة، يمكن أن يتزعزع الاستقرار بل وتدمر قدرة الأرض على العمل ودعم الحياة. تم تعيين تسعة حدود: تغير المناخ، وسلامة المحيط الحيوي، وتحمض المحيطات، ونضوب الأوزون، وتلوث الغلاف الجوي، واستخدام المياه العذبة، والتدفقات البيوجيوكيميائية للنيتروجين والفوسفور، وتغير نظام الأرض، وبالطبع إطلاق مواد كيميائية جديدة.

تلوث كيميائي

العديد من هذه الحدود لها عتبات واضحة. على سبيل المثال، حدد العلماء أن البشرية ستتجاوز مساحة التشغيل الآمنة لتغير المناخ عندما يتجاوز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي 350 جزءاً لكل مليون هذا حدث فعلاً عام 1988. ومع ذلك، فإن عتبة الكيانات الجديدة، تتهرب من التعريف حتى الآن إلى حد كبير بسبب فجوات المعرفة المحيطة بهذه المواد.

قالت باتريشيا فيلاروبيا غوميز، باحثة التلوث البلاستيكي في مركز ستوكهولم، والتي ساهمت بتأليف الورقة الجديدة، إن فجوات المعرفة ليست نهائية لأن هذه المواد الكيميائية وغيرها من المواد الملوثة لا تشكل مخاطر حقيقية برأي العلماء، ذلك لأنهم يتسابقون لفهم هذه الكيانات الجديدة والطرق التي لا تعد ولا تحصى التي يمكن أن تؤثر على العالم الطبيعي.

وقالت فيلاروبيا غوميز للموقع في تلك المقابلة: إنه مجال دراسي جديد للغاية. إنه في مهده بالمقارنة مع المشكلات البيئية الرئيسية الأخرى ... تم إجراء معظم الأبحاث في السنوات السبع الماضية.

وقالت كارني ألمروث إن الباحثين استخدموا الهولوسين، وهو العصر الجيولوجي الحالي الذي بدأ منذ أكثر من 10000 عام فقط، كنقطة قياس لتحديد عتبات حدود الكواكب الأخرى، لكن هذا النهج غير مناسب للكيانات الجديدة.

وأضافت: هذه الحدود مختلفة الآن، ففي حقبة الهولوسين يمكن للعلماء أن ينظروا إلى الوراء عندما كان نظام الأرض مستقراً ويحددوا قيمة مستويات ثاني أكسيد الكربون، وأين كان النيتروجين والفوسفور خلال تلك الفترة الزمنية ويمكن اعتبار هذه القيم كأساس. أما بالنسبة إلى الكيانات الجديدة، فهي لم تكن موجودة خلال تلك الفترة الزمنية وستكون مستويات خط الأساس الخلفية صفراً لمعظمها.

بدلًا من ذلك، جمع الباحثون كل المعلومات التي استطاعوا الحصول عليها عن المواد الكيميائية الاصطناعية وغيرها من الملوثات، ودرسوا آثارها على طول سلسلة التوريد الخاصة بهم، من الاستخراج إلى الإنتاج إلى الاستخدام، وفي النهاية، التخلص منها كنفايات. ثم استخدموا نهج ثقل الأدلة لتحديد أن الكيانات الجديدة يمكن، في الواقع، أن تعطل استقرار الكوكب.

وقالت كارني ألمروث: يدل وزن الأدلة الآن أننا نتجاوز الحدود، ولكن هناك المزيد من العمل الذي يتعين القيام به.

مع تأخر العلم كثيراً في تقييم المخاطر، وفشل الحكومات إلى حد كبير في تنظيم المواد الكيميائية، تتجه البشرية إلى المستقبل بشكل أعمى؛ حيث يمكن أن تكون الآثار غير المتوقعة للملوثات الكيميائية كارثية.

إن إطلاق كيانات جديدة ليس هو الحد الكوكبي الوحيد الذي خرقته البشرية. لقد تجاوز تغير المناخ، وسلامة المحيط الحيوي، وتغير نظام الأراضي، والتدفقات البيوجيوكيميائية للنيتروجين والفوسفور حدود التشغيل الآمنة التي تحافظ على الأرض مكاناً صالحاً للسكنى.

تهديد "وجودي" للإنسانية

ما هو معروف عن المواد الكيميائية والملوثات الأخرى أثار إنذارات الخطر عند الخبراء منذ فترة طويلة - تعود بدايتها إلى الناشطة البيئية راتشيل كارسون وإطلاقها لمجلة Silent pring التي ساعدت في إطلاق الحركة البيئية الحديثة. يمكن للمواد الكيميائية الخطرة مثل المبيدات الحشرية أن تلحق الضرر بصحة التربة، وتلوث مياه الشرب، كما يمكن أن تحملها الرياح، لتؤثر على بيئة أوسع وتعطل تجمعات الطيور والثدييات والأسماك. كما أن العديد من المواد الكيميائية التي نتناولها، مثل المستحضرات الصيدلانية، تستمر بعد أن يتم التخلص منها في المرحاض، في تلويث المياه التي تنتهي إلى الأنهار والمحيطات، أو حتى الأرض عند استخدام حمأة الصرف الصحي الملوثة لتخصيب المحاصيل.

يعتبر الثبات الكيميائي في البيئة مشكلة شائكة رئيسية: فقد أظهرت الأبحاث أن مركبات ثنائي الفينيل متعدد الكلور (PCBs) - وهي مواد شديدة السمية ومسببة للسرطان محظورة من قبل الولايات المتحدة منذ عام 1977 وكانت تستخدم على نطاق واسع في المبردات والدهانات الزيتية - استمرت في التراكم في دهن الحيتان القاتلة (Orcinus orca)، مما شكل تهديداً حقيقياً للأنواع التي تكافح بالفعل في أجزاء كثيرة من العالم. ما يسمى بـ "المواد الكيميائية للأبد" مثل مواد البيرفلوروالكيل والبولي فلورو ألكيل (PFASs)، شديدة السمية، ومسببة للسرطان وتؤدي إلى اختلال الغدد الصم، تستخدم حالياً بشكل شائع في تغليف الأطعمة التي تستخدم لمرة واحدة، وأدوات الطهي، ومستحضرات التجميل وحتى في خيط تنظيف الأسنان. وجد تقرير حديث أيضاً أنها شائعة في مياه الشرب في الولايات المتحدة، وتستغرق مئات أو آلاف السنين لتتحلل، ولكن لم يتم وضع حدود أمريكية بعد على تركيز المواد الكيميائية في الماء.

تلقي الورقة الجديدة في مجلة "العلوم والتكنولوجيا" نظرة خاصة على المواد البلاستيكية التي أصبحت موجودة دائماً في الحياة اليومية مثل تغليف المواد الغذائية وأدوات المطبخ والأجهزة. في السنوات الأخيرة، تم إعطاء الكثير من الاهتمام لتريليونات اللدائن الدقيقة وهي عبارة عن شظايا أصغر من 5 ملليمترات، أو ثلاثة إلى ستة أعشار البوصة فقد وجد العلماء أنها تلوث المحيطات العالمية، وتمتلك إمكانية التشابك مع بعضها لتشكيل قطع أكبر لخنق الحياة البرية. يُظهر بحث جديد مثلاً أن نسيم البحر يمكن أن يدفع جزيئات البلاستيك إلى الغلاف الجوي، ويلوث الهواء الذي نتنفسه ويؤثر على تغير المناخ.

يمثل البلاستيك مشكلة كبيرة لأنه مصنوع من مزيج من المواد الكيميائية التي يمكن أن تتسرب من المواد الخطرة، خاصة عند تسخينها أو تبريدها أو خدشها. ثبت أن مركباً كيميائياً يعرف باسم بيسفينول أ (BPA) يعمل كمعطل للغدد الصم ويتداخل مع الهرمونات ويؤثر على أجهزة المناعة بل ويعزز بعض أنواع السرطان. حتى إن إحدى الدراسات وجدت أنه يمكن امتصاص BPA في جسم الإنسان بمجرد ملامسته للجلد. ولكن ليس فقط BPA هو الضار - فقد وُجد أن العديد من بدائل BPA تشكل خطراً متساوياً على صحة الإنسان.

البلاستيك ليس مجرد مشكلة في حالته النهائية. لتصنيع البلاستيك، الذي يستخدم البترول كقاعدة له، تحتاج غازات الدفيئة مثل الإيثان والميثان إلى التكسر من الأرض و "التحول" إلى مركبات جديدة، سلائف للبلاستيك. يمكن أن تطلق هذه العمليات الصناعية عدداً من المواد الكيميائية السامة، جنباً إلى جنب مع العديد من غازات الدفيئة في البيئة. يرتبط إنتاج البلاستيك ارتباطاً وثيقاً بصناعة الوقود الأحفوري، ومع انخفاض الطلب على النفط، تعمل صناعة البتروكيماويات على تكثيف إنتاجها من البلاستيك.

بورن بيلر، المنسق الدولي للشبكة الدولية للقضاء على الملوثات (IPEN)، والذي لم يشارك في هذا البحث الجديد، وصفه بأنه "ورقة أكاديمية ذكية جداً" توضح الحاجة إلى العمل الفوري.

قال بيلر: إن إطلاق كيانات جديدة في البيئة يشكل خطراً مشابهاً لتغير المناخ. وأشار إلى أن "كليهما تهديد وجودي للإنسانية". تغير المناخ سيحدد المكان الذي يمكنك العيش فيه وكيف يمكنك الحصول على سبل العيش. المواد الكيميائية في الواقع تقضي على صحتك، إنها مباشرة وشخصية للغاية. لذلك أود أن أرسمهم على نفس مستويات الأزمة. الأمر فقط أننا لسنا مدركين اجتماعياً للمواد الكيميائية والسلامة الكيميائية، كما هو الحال بالنسبة إلى المناخ الآن.

غالباً ما يستغرق تحديد مخاطر مادة كيميائية عدة سنوات من البحث المنهجي، حيث يتتبع العلماء الروابط السببية بين المادة الاصطناعية والتأثيرات البيئية والصحية الناتجة. بحلول ذلك الوقت، ستكون هذه المادة غالباً في كل مكان، وربما تستخدم في المنتجات بشكل واسع.

تزايد الوعي

في حين أن التغيير مطلوب بشكل عاجل للتخفيف من آثار الكيانات الجديدة، قالت كارني ألمروث إن مثل هذا التحول في الأنموذج الصناعي سيتطلب "إصلاحاً شاملاً للهياكل المجتمعية النظامية".

وقالت إن الصناعات التي تنتج كيانات جديدة "تدعمها حقيقة أننا نحتاج إلى نمو اقتصادي مستمر". هذه إحدى الطرق التي تمكنوا من خلالها من الاستمرار في إنتاج واستخدام المواد الكيميائية، حتى في مواجهة بيانات السمية، لأنهم يستطيعون إثبات قدرتها على تنمية الاقتصادات وتوفير الوظائف وتوفير المواد وما إلى ذلك.

على الرغم من ضخامة المشكلة، قد تكون هناك فرص للتغيير في المستقبل القريب. على سبيل المثال، هناك دعوات لتشكيل فريق دولي حول التلوث الكيميائي، على غرار تلك المؤسسات التي تركز على التنوع البيولوجي والمناخ، مثل الفريق الدولي للمناخ أو الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC).

في شباط وآذار، ستعقد جمعية البيئة الأمريكية (UNEEA) في نيروبي عاصمة كينيا، مؤتمراً لمناقشة عدد من القضايا البيئية، بما في ذلك ما إذا كان ينبغي تفويض معاهدة عالمية جديدة بشأن البلاستيك.

قال بيلر إنه على الرغم من أن المفاوضات قد تتأرجح في اتجاه معالجة البلاستيك فقط كمسألة نفايات، إلا أن هناك دعوات لمعالجة دورة حياة البلاستيك بأكملها، مع مراعاة جميع المواد الكيميائية والملوثات التي يطلقها البلاستيك في البيئة بدءاً من إنتاجه حتى وصوله إلى مجرى النفايات.

وقال أيضاً إن هناك سبباً للتفاؤل في الطريقة التي ساعد بها الاهتمام العام المتزايد بالتلوث البلاستيكي في زيادة الوعي بالمشكلة الأكبر للملوثات الكيميائية الاصطناعية.

وأضاف: كان هناك ارتفاع طفيف في الوعي بالضرر الناجم عن المواد الكيميائية.. بسبب الانتماء والارتباط بالبلاستيك. ولكن قبل استخدام البلاستيك، كان الأمر بمثابة متاهة من الوعي في صحراء، وقد أوجد البلاستيك واحة صغيرة من الوعي المتزايد.

-----

بقلم: إليزابيث كلير ألبرتس

ترجمة عن موقع: https://news.mongabay.com