مازال هناك بعض التحفظ من فئة ليست بقليلة من الناس في مراجعة العيادات النفسية، ورغم كل هذا نلاحظ أن كثيراً من الناس أصبحوا واعين لمشاكلهم النفسية ولضرورة مراجعة الطبيب النفسي، لأن الواقع يفرض عليهم ذلك؛ حيث نجد كثيراً من الناس يراجعون عيادات مختلفة من داخلية وقلبية ويتكلفون تكاليف باهظة ويضيعون الوقت، بالإضافة إلى المعاناة الطويلة حين يتنقلون من اختصاص إلى آخر دون فائدة، لذلك يلجؤون في النهاية إلى الطبيب النفسي لأن المشكلة النفسية تكون صعبة الحل في الاختصاصات الثانية.

من المفاهيم الشائعة عن المرض النفسي لدى فئة غير قليلة في مجتمعنا ارتباطه بالجنون، إذ يعتقد الكثيرون بأن من يتردد على العيادة النفسية هو مجنون أو أحمق، وقد يفضلون زيارة مشعوذ أو دجال بدلاً عنها.

ثقافة الطب النفسي

د. "جلال الدين شربا" متخصص بالأمراض النفسية والعصبية من "ألمانيا" ومدير مشفى ابن رشد للأمراض النفسية سابقاً ورئيس المجلس العلمي للطب النفسي في "سورية" وعضو هيئة البورد العربي، يخص البوابة المعرفية بحوار حول واقع الطب النفسي في "سورية" بقوله: "يخطئ الكثيرون عندما يظنون أن واقع الطب النفسي في "سورية" مازال متخلفاً جداً والناس لا يراجعون العيادات النفسية في الوطن العربي، فقد أساءت الأفلام المصرية القديمة للطب النفسي، وقد ذكرت هذا في أكثر من مقال وأكثر من لقاء صحفي؛ حيث كانت تصور الطبيب النفسي والمريض النفسي بشكل مثير للسخرية في أكثر من فيلم، لكن مع مرور السنوات عملنا على نشر ثقافة الطب النفسي من خلال كتابات صحفية منذ أكثر من عشرين عاماً ومن خلال عشرات البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي قدمنا فيها كثيراً من المشاكل النفسية وضرورة مراجعة الطبيب النفسي وكيفية التعامل مع الأمراض النفسية، وبسطنا هذه الأمور للمواطن العربي".

الدكتورة شذى الميداني

متى نلجأ إلى الطبيب النفسي؟

الطب النفسي

ويتابع د. جلال بقوله: "مع ذلك مازال هناك بعض التحفظ من فئة ليست بقليلة من الناس في مراجعة العيادات النفسية، ورغم كل هذا نلاحظ أن كثيراً من الناس أصبحوا واعين لمشاكلهم النفسية ولضرورة مراجعة الطبيب النفسي، لأن الواقع يفرض عليهم ذلك؛ حيث نجد كثيراً من الناس يراجعون عيادات مختلفة من داخلية وقلبية ويتكلفون تكاليف باهظة ويضيعون الوقت، بالإضافة إلى المعاناة الطويلة حين يتنقلون من اختصاص إلى آخر دون فائدة، لذلك يلجؤون في النهاية إلى الطبيب النفسي لأن المشكلة النفسية تكون صعبة الحل في الاختصاصات الثانية".

ازدياد الحالات

حول الحرب وتأثيرها على الحالة النفسية يقول د. "شربا": "ازدادت المشاكل النفسية بكل تأكيد بعد الحرب نتيجة الظروف القاسية التي مر ويمر بها المجتمع السوري والعائلات السورية نتيجة الحرب الطويلة والظروف الصعبة والمشاكل الحياتية المتراكمة يوماً بعد آخر، لذلك نجد ارتفاعاً كبيراً في مراجعي العيادات النفسية. وأكثر المشاكل النفسية التي تراجعنا هذه الأيام هي الاكتئاب النفسي وعصاب القلق النفسي بالإضافة إلى العصاب ما بعد الرض نتيجة الظروف الصعبة التي مر بها الكثيرون".

الشباب الفئة الأكثر ارتياداً للعيادات النفسية

ويبين د. "شربا" أن أكثر الفئات التي تراجع العيادات النفسية هي من فئة الشباب بين العشرين والخامسة والثلاثين، لأن هذا العمر بحسب د. "شربا" هو عمر النضج والعمل والآمال والأحلام. ونتيجة الظروف الصعبة التي يمر بها الناس وخاصةً هذه الفئة العمرية، فقد خاب أملهم وتبددت أحلامهم وأصبحت تصطدم بالواقع الصعب وفقدوا الآمال والأمان بالمستقبل، لذلك نراهم أكثر إصابة بالاضطرابات النفسية.

ما الفرق بين الطبيب والمعالج!

يوضح د. "شربا" الفرق بين الطبيب والمعالج النفسي بقوله: "هناك فرق كبير بين المعالج النفسي والطبيب النفسي، وفي كل العالم هناك الفريق العلاجي النفسي الذي يقوده الطبيب النفسي ويكون ضمنه المعالج النفسي والممرض النفسي والأخصائي الاجتماعي، حيث يقوم الطبيب بتشخيص المرض النفسي وليس المعالج النفسي ولا الباحث الاجتماعي في كل دول العالم. وبعد التشخيص من قبل الطبيب النفسي يضع خطة العلاج متكاملة ويصف الدواء ثم يتحدث مع المعالج النفسي بأن هذا المريض يجب أن نطبق له علاجاً سلوكياً أو معرفياً. ويقوم المعالج النفسي المختص بتطبيق هذا العلاج، كما يوجه الطبيب النفسي الباحث الاجتماعي إلى البحث في أجواء الطفولة والأسرة وغيرها. إذاً الطبيب النفسي يقود الفريق ويضع العلاج الدوائي وهو من يوجه بقية أعضاء الفريق بما فيهم المعالج النفسي إلى نوع العلاج النفسي الذي يجب أن يطبق".

الخجل من الاعتراف

حول تقبل المجتمع لفكرة الطبيب النفسي، تحدثنا د. شذى الميداني دكتورة في القياس والتقويم التربوي والنفسي في جامعة "دمشق" ومدرسة مادة القياس والتقويم في كلية العلوم الصحية ورئيسة قسم القياس النفسي في مركز القياس والتقويم بقولها: "يعتقد الكثيرون أن الأمراض النفسية تختزل فقط في الفصام والاضطرابات المتعلقة به. هذه الفكرة الخاطئة خلفت وصمة سلبية للمرض النفسي من قبل فئة غير قليلة من المجتمع. وإذا أجرينا مقارنة متعلقة بموقف الأهل وحالة الإصابة بالمرض العضوي والإصابة بمرض نفسي، نجد أن الأهل في الحالة الأولى يستدعون الطبيب بشكل فوري، وينفذون تعليماته بدقة، وتسود مشاعر التعاطف مع المريض، أما في حالة المرض النفسي فنجد الأهل يترددون كثيراً قبل مراجعة الطبيب، كما أنهم يحاولون إخفاء أنباء المرض حتى عن المقربين، ويحملون مشاعر هجومية نحو المريض؛ إذ يفسرون كل الأعراض بالمس من الجن، أو الإصابة بالسحر أو العين، أما الاعتراف بالمرض النفسي فمعناه عندهم الاعتراف بالنقص والقصور".

وتبين د. "شذى" أن هذه الاعتقادات تؤدي إلى التردد قبل زيارة الطبيب النفسي والخجل من ذلك، بل ربما الامتناع عن الإقدام عليه رغم الحاجة الشديدة إليه، ومن السهل على أصحاب هذه الاعتقادات مراجعة دجال أو مشعوذ دون تردد، ونتيجة لهذه الأفكار والممارسات فان الناس يتأخرون في مراجعة العيادة النفسية حتى يستفحل المرض وتصبح عملية العلاج أطول.

100 نوع من الأمراض النفسية

إن عدد الاضطرابات النفسية وتصنيفها يبلغ أكثر من مئة نوع وفقاً للتصنيفات الحديثة، والاضطرابات البسيطة أو الخفيفة تشكل أكثر من 80 بالمائة من مجموع هذه الحالات، ومعظمها يمكن علاجه في العيادات، ولا يحتاج إلى الاستشفاء.

وبحسب د. "شذى" من الاعتقادات السائدة المغلوطة أن الأمراض النفسية لا شفاء منها، لكن في الحقيقة يتدرج المرض النفسي من الاضطراب البسيط الذي يمكن علاجه بالإرشاد النفسي والطمأنة إلى الفصام العقلي شديد الاضطراب الذي يتحكم به دوائياً، بل وحتى اضطراب الفصام الذي ينقسم إلى عدة أنواع متفاوتة، وفي أغلب الأنواع يعطي العلاج الدوائي فعالية كبيرة في التحكم في الأعراض والوقاية من الانتكاسة.

استجابة متفاوتة

لا تختلف الأمراض النفسية عن غيرها من الأمراض في التخصصات الأخرى من حيث الاستجابة للعلاج؛ فمن المرضى من يستجيب للعلاج استجابة كاملة، ومنهم من لا يستجيب أو يستجيب جزئياً؛ ولذلك يكون العلاج فعالاً في نسبة معينة من المرضى بحسب حجم الاستجابة.

هل الوراثة أحد الأسباب

لدى سؤالنا للدكتورة "ميداني" حول العلاقة بين المرض النفسي والوراثة قالت: "أثبتت التجارب العلمية بأن سبب الأمراض النفسية هو اختلال في مستوى النواقل العصبية في الدماغ نتيجة عدة عوامل منها: تأثير الوراثة والبيئة والتربية وعوامل عديدة أخرى، والمرض النفسي مثله في ذلك مثل الأمراض العضوية الأخرى له أساس عضوي، وانتقال الأمراض النفسية عبر الوراثة يعكس الطبيعة المرضية لتلك الأمراض".

أساليب العلاج

بحسب د. "ميداني" تتنوع أساليب العلاج النفسي وأبسطها العلاقة الطيبة مع الطبيب الذي ينصت للشكاوى، ويتفهم الانفعالات، ويشجع على مواجهة المشكلات وحلها، إلى العلاج السلوكي المعرفي الذي يعتمد على تغيير نظرة الإنسان السلبية إلى نفسه وإلى الآخرين، وتغيير السلوكات غير السوية، ومنها العلاج الأسري والعلاج بالتحليل النفسي وغيرها كالجلسات النفسية التي ليست مجرد حوار مع المريض من أجل الكلام فقط، أو حصص دردشة وإصدار الأحكام من طرف المعالج، أو إبداء آرائه الشخصية، وإنما تتبع منهجاً وبرنامجاً خاصاً، وتقوم على أسس علمية متينة؛ ولذلك فإن من يقوم بها يجب أن يكون من المتخصصين، وهنا يأتي دور الطبيب في تشخيص المرض واقتراح العلاج النفسي الملائم لكل حالة.

جزء من العلاج

ترى د. "ميداني" أن أكثر الحالات التي تراجع العيادات في مجتمعنا هي اضطراب الاكتئاب والقلق والوسواس القهري.

ووظيفة الدواء النفسي هو القضاء على أعراض الاضطراب النفسي العارض، أي أنه يزيل أعراض الاكتئاب أو الوسواس أو الرهاب أو الفصام أو غيرها مادامت ناتجة عن خلل كيميائي في وظيفة المخ، بحيث يعيد المريض إلى حالته قبل حدوث الاضطراب النفسي، لكنه لا يستطيع في حالة اضطراب الشخصية إلا أن يقلل إلى حد ما من معاناة المريض، ومن بعض الأعراض لكنه لا يستطيع أن يغير بالطبع من طريقة تفهمه للواقع، وطريقة تعامله مع الآخرين، فهذه كلها أمور تحتاج إلى نوع مناسب من أنواع العلاج النفسي المختلفة.

من بين المفاهيم الأكثر شيوعاً هي اعتبار الأدوية النفسية مخدرات تؤدي إلى الإدمان. وهنا تبين د. "ميداني" أن هذا المفهوم شائع حتى عند البعض من العاملين في القطاع الصحي، فبعضهم يحذرون المريض من تناول الدواء النفسي، أو ينصحونه بعدم الاستمرار في استعماله كيلا يتحول بسببه إلى مدمن. وفي الحقيقة هناك أنواع جد محدودة من الأدوية التي قد تؤدي إلى احتمال الإدمان عليها، وهذا يحدث في أغلب الأحيان إذا استعملت بدون استشارة الطبيب ولمدة طويلة.

موروث اجتماعي

من جهتها "رهف الصفدي" مدربة تنمية بشرية تقول في مداخلة لها عبر البوابة المعرفية: "يفضل الكثيرون المعاناة على زيارة الطبيب النفسي، لأن هناك موروثاً اجتماعياً بأنه "عيب" أو غير مقبول ويفتح الباب للحديث عن المريض واتهامه بالجنون، ومن يزور الطبيب بالفعل يكون قد وصل إلى مرحلة متقدمة من عدم القدرة على تحمل المعاناة، وأكثر هؤلاء هم من فئة الشباب الذين يتقبلون الفكرة بشكل أكبر ولديهم انفتاح على هذا الموضوع. وأكثر الحالات التي تزور العيادات النفسية هي حالات الاكتئاب المنتشر في ظل الظروف التي نعيشها اجتماعياً، اقتصادياً، وأنصح كل شخص يعاني بزيارة الطبيب النفسي لأنه كلما كانت الزيارة في وقت مبكر، كانت النتائج المحققة أفضل والمعاناة والتكاليف أقل".

جرت اللقاءات بتاريخ 15 شباط 2022.

تمت الاستعانة بمرجع "دليل الطب النفسي (شهادات من واقع التجربة)".