هو واحد من أمهر المعماريين في التاريخ القديم، ولد في "دمشق" ولقب "بأبو دات"، ومن ثم سمي بالاسم اليوناني "أبولودوروس"، وتعني باليونانية "هبة أبولو" أو عطاء "أبولو". قضى قسماً كبيراً من حياته في روما، وأبدعت أنامله أعظم المنجزات المعمارية.

أبولودوروس اسم إغريقي مشتق من اسم إله الضوء والشباب والشمس والموسيقا، وهذه الأسماء كانت شائعة في بلاد الشام قديماً بحكم الاختلاط بالثقافة الإغريقية. ولأن دمشق مدينة متعلقة بأبنائها، فقد التصق لقب "دمشقي" بأحد أبنائها العباقرة الذي هو أبولودور الدمشقي، فظل اسمه رمزاً لانتمائه إليها. ‏

ففي مدينة "دمشق" عام 60م أبصرت عيناه النور، فعاش تحت سمائها وتنشق عبيرها وشرب ماءها وتجول بأزقة شوارعها وتوفي عام 125م في المنفى. سافر إلى روما بعمر الثلاثين عندما استدعاه الإمبراطور "ترايانوس" عندما استلم الحكم في "روما"، حيث كان "أبولودوروس" الدمشقي والإمبراطور "ترايانوس" صديقين حميمين، ويظن أن عهد صداقتهما يعود إلى أيام كان فيها "ترايانوس" محامياً عسكرياً في "سورية" في حقبة ولاية والده الإمبراطور الروماني "تراجان". وعندما أصبح حاكماً على روما، بدأ الفن في عهده يأخذ صورة مختلفة عن العهد الهيلينستي، فظهرت منحوتات بمفاهيم جديدة، تمثل لأول مرة الطبقات الشعبية في العديد من المشاهد، وكان وراء ذلك كله، شخصية فنية سورية، هي شخصية أبولودوروس الدمشقي، وكلفه ترايانوس بإدارة مجموعة من المشاريع المعمارية والعمرانية المهمة في مدينة روما.

قوس ترايانوس

تؤكد الدراسات والكتابات التي رصدت حياته وإنجازاته، أن اسم "أبولو" أتى نتيجة التعايش الطويل والاتصال الكبير بين اليونانيين القدماء، والسوريين الآراميين والأنباط والتدمريين، فقد كان المعماري أبولودوروس برجولة فيها مهابة، ويمتلك سمات شرقية واضحة ومتوازن الشخصية. موهبته المتميزة فرضت احترامه على المجتمع الروماني، فبالرغم من عدم انتمائه إلى الطبقة الأرستوقراطية، فقد فرض على الآخرين الاحترام والتقدير لمواهبه في المجتمع الروماني، وتسنم مناصب عليا. بلغ منصب وزير الانشغال العامة في لغة اليوم.

تأثر في موطنه الأصلي بروائع العمارة، ونقل إلى روما روحه الشرقية في العمارة والفن، ومن المؤسف أن منجزات أبولودوروس في موطنه الأصلي مجهولة لا يعرف أحد شيئاً عنها، أما أعماله في روما وفي أجزاء أخرى من الإمبراطورية الرومانية فمشهورة، فهو يعتبر واحداً من أهم المعماريين الذين عرفهم التاريخ القديم.

مجمع أسواق

منجزاته الحضارية

قد أثبتت الدراسات الحديثة أن عدد هذه المنجزات التي أقامها أبولودور خمسة عشر على الأقل منها "السوق الترايانية"، فقد كلف الإمبراطور الروماني المعماري أبولودور بإنشاء سوق في روما تحمل اسمه، وذلك نحو 108-109م، وقد اعترضته مشكلة هي وجود رابية الكوبريناليس في الجهة الشرقية من الأرض المعدّة للمشروع، إذ إن هذا المرتفع يعوق الحركة ويشوه المنظور العام من جهة، ويحدث انهيارات من جهة ثانية، لكن المعماري الدمشقي أبولودور استطاع الوصول إلى حل يحقق الغايتين الجمالية والعملية في وقت واحد، فاقتطع حافة الرابية وأنشأ مكانها سوقاً مجمعة ومسقوفة، وفق الأسلوب الشرقي، وجعلها على شكل قوس كبيرة تتدرج عند الرابية بطوابق ستة، تضم نحو 150 دكاناً، وقاعة للاجتماعات والمزاد، وصالة بيع شعبية. إن سوق أبولودور التي لا تزال ماثلة في روما، حققت في حينها مركزاً تجارياً واجتماعياً كبيراً في أقل مساحة ممكنة، كما أنها منعت انهيار أطراف الرابية، وقد ظلّ هذا السوق يستهوي المصممين المعماريين في كل العصور، لما يتمتع به من جمال وبساطة مع الفائدة القصوى من إشغالات الأرض، فضلاً عن خلفيته المعمارية الأخّاذة.

ومن الأعمال التي لا تزال شاهدة على عبقرية المعماري الدمشقي أبولودوروس "الجسر العملاق على الدانوب"؛ حيث كُلف أبولورودوس بوضع تصاميم هذا الجسر، وأنشأه على الدانوب عند مضيق بوابات الحديد قرب مدينة دوبريتي دوريسين الحالية في المجر مستخدماً جيشاً بتمامه مدة عام كامل تقريباً. وقد اعترضت أعمال بناء الجسر إقامة أساسات وركائز في سرير النهر، إذ كان من الغزارة بحيث لا يمكن تحويله. ولكن عبقرية أبولودور ونظرته المعمارية المبدعة ولأول مرة في التاريخ، استطاع إرساء عشرين ركيزة قوية جداً في لجة النهر، ثم مد الجسر بطول 1097 متراً وبعرض يراوح بين 13 و19 متراً، وكانت فرجة القناطر بين الركائز 35-38 متراً، وحصّن طرفي الجسر بالأبراج.

كما طلب الإمبراطور ترايانوس من أبولودور الدمشقي أن يشيد له عموداً يتخذه شاهد قبر له وذكرى للمنشآت البديعة المنفذة في هذا الميدان الرائع، فقادته عبقريته الفذة إلى تصميم عمود لم يسبق له مثيل في تاريخ الفن العالمي، وأتمه في عام 113م، كما يرى النقاد أن هذا العمود العملاق المزين بإفريز حلزوني منحوت يدور حول جذعه طوله 33 متراً يكاد يكون فيلماً تسجيلياً. ولعل أبولودور قد استوحى نماذج نحتية من الأوابد الآشورية في بلاده الأصلية.

وينسب إلى أبولودور، قوس النصر في مدينة "بيغافتوم" وقوس النصر في مدينة "أنكونا". ومن منجزاته أيضاً مسرح موسيقي "أوديون" في مدينة "مونتي جورد يانو" وغير ذلك كثير، ومن المفيد ذكر مؤلفه عن (آلات الحصار) الذي وصلت إلينا بعض رسومه مستنسخة في مخطوط بيزنطي.

أضف إلى أن الحمامات التي بناها أبولودوروس لترايانوس هي التي حددت هيئة الحمامات فيما بعد، إذ أصبح على التصميم أن يلبي حاجتين أساسيتين هما: الاستحمام بأشكاله ومراحله المتعددة من جهة، والترويح والرياضة من جهة ثانية.

ويذكر تاريخ كمبريدج: إن بعض العلماء يعتقدون بأن سورية في مجال العمارة كانت متقدمة على "روما" بل كانت بالنسبة إليها الأنموذج الذي احتذته، وأن سورية تفوقت على "روما" في عبقريتها المبدعة وفي معارفها التقنية وفي مهارة عمالها.

كما يقول الشاعر اللاتيني جوفينال: "إن العاصي السوري أخذ يصب مياهه منذ وقت طويل في نهر التيبر حاملاً معه لغته وعاداته".

وتكريماً له تم إصدار مجلة أبولودور التي صدرت من دمشق وتعنى بالفن والعمارة والديكور.

تتحدث الدراسات والمؤلفات التي كتبت عن أبولودوروس الدمشقي عن النهاية المأساوية لهذا المهندس المعماري والفنان العالمي الكبير، حيث أجمعت هذه الدراسات بأن الإمبراطور "هدريان" اتهم أبولودوروس بأشياء مختلقة، ونفاه من روما، ثم أمر بقتله. وهكذا انتهت حياة هذا المعمار الدمشقي أبولودوروس الذي بفضله، كان عصره بمثابة العصر الذهبي لفن العمارة والعمران في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، والتاريخ القديم، ولم تزل الجامعات والمعاهد في شتى أرجاء العالم تدرس نظرياته ومنجزاته الرائعة الباقية آثارها شاهدة على ذلك.

----

المراجع:

[1] كتاب "أبولودور الدمشقي" للكاتب الراحل "عدنان البني" الصادر في وزارة الثقافة، دمشق، 1990.

[2] الموسوعة العربية "أبولودوروس الدمشقي"، الفنون والثقافة من مجلة "أبولودور العدد الأول الصادر عام 2007.

[3] جوفاني كوماري، رحلة في تاريخ علم البناء الحربي عند أبولودور، عمارة أبولودور في الثقافة الكلاسيكية، روما، 2001.