لعب علم الفلك دوراً أساسياً في حياة البشر عند كل الحضارات القديمة في بابل ومصر وغيرها من الحضارات وصولاً إلى عالمنا هذا. فقد اعتمد الإنسان على الفلك في شتى مناحي الحياة من معرفة وتحديد الوقت، ومواسم الزراعة، والتغيرات المناخية، وتحديد الاتجاهات في السفر ومعرفة الأيام والسنين، ودراسة المركبات الفيزيائية والكيميائية للنجوم والكواكب من خلال الرصد الطيفي لتلك النجوم والأجرام السماوية التي تدور حولنا.

وعلى الرغم من اختلاف العلماء حول تاريخ نشأت هذا العلم، يرى فريق من العلماء أن الفلك نشأ كعلم في الحضارة البابلية في بلاد ما بين النهرين، بينما يرى فريق آخر أن علم الفلك نشأ في بلاد النيل وتحديداً في مصر. وهناك من قال أن علم الفلك بدأ منذ عصر ما قبل التاريخ بتتبع حركات النجوم والكواكب في دورات منظمة؛ حيث كان الإنسان الأول يشغل تفكيره بالحركة الظاهرية المتكررة للشمس والقمر. إلا أنه اليوم يشكل هاجساً لكل العاملين في القطاعات المختلفة لأن تكنولوجيا الفضاء هي الأكثر تحكماً بمستقبل البشرية، فمن ليس له مكان في الفضاء لم يكن له مكان على الأرض، فالفضاء اليوم هو المعيار الذي تقاس به تقدم الدول وتكنولوجيا الدول ومستقبلها.

قدرات النهوض

يبين الدكتور محمد العصيري رئيس الجمعية الفلكية السورية حاجتنا إلى خطوات ملموسة وواضحة لتطوير المنظومة التكنولوجية في علم الفلك، خاصة أن هذا العلم لا يزال يخطو خطوات متواضعة في سورية بسبب الظروف الصعبة التي تمر بها. وبالوقت نفسه يشير إلى وجود قدرات كبيرة للنهوض به مع وجود الجمعية الفلكية السورية التي تمتلك ثاني أكبر تلسكوب في العالم العربي وهي عضو بالاتحاد الدولي للفلك الذي يضم عدداً قليلاً من الدول العربية، إذ يضم 95 دولة وتعتبر سورية أحد هذه الدول، إضافة لامتلاكها كوكب تدمر وكوكب إيبلا ونجم أوغاريت وكويكب الطنطاوي، كما أنها عضو في المركز الإقليمي لتدريس علوم وتكنولوجيا الفضاء التابع للأمم المتحدة.

توضع الكواكب

ويؤكد العصري على ما حققته سورية من بصمة مهمة جداً في مجال علوم الفضاء والفلك وجعلت له مكانة كبيرة جداً على المستوى المجتمعي من خلال النشاطات والأبحاث العلمية وليالي الرصد الفلكية ومتابعة الأحداث والنشرات العلمية، ولكن هذا التطور لا يعد تطوراً قائماً على الجهات المجتمعية متمثلة بالجمعية الفلكية السورية. بينما على المستوى الحكومي فإن التوجهات في مجال علوم الفضاء والفلك لا تزال ضعيفة نسبياً، فلا يأخذ علم الفضاء والفلك أهمية كبيرة رغم أنه موضوع الساعة، ويظهر ذلك من خلال المعلومات التي تأتي من الأرصاد الجوية والاستشعار عن بعد عن حرائق الغابات ومكامن المياه الجوفية ومياه الطاقة وغيرها من المعلومات الهامة التي تُستخدم تكنولوجيا الفضاء اليوم. والتي أصبحنا بأشد الحاجة لامتلاكها وخاصة أنها تقنية غير مكلفة، إذ بإمكاننا أن يكون لدينا قمر صناعي ومحطة استقبال صور فضائية وأن يكون لدينا أكبر مرصد في الوطن العربي في ظل توفر الأيدي العاملة والخبرات العلمية والطاقات البشرية.

طقس الفضاء

تكمن اليوم أهمية هذا العلم في درء المخاطر، فاليوم إدارة الكوارث والأزمات تتعلق بشكل كبير بتكنولوجيا الفضاء وتحليل المعلومات بصورة التوابع الصنعية. ويؤكد رئيس الجمعية الفلكية السورية: إن ما يعرف اليوم بطقس الفضاء وهو من الأهمية بمكان أن معظم دول العالم تُحدث مرصداً خاصاً له للتنبؤ بطقس الفضاء وتأثيرات الشمس والكواكب والنجوم على الطقس وعلى الحالة الكهرطايسية والمغناطيسيية للأرض وما تحت الغلاف الجوي وما تحمله من تأثيرات كبيرة على الواقع التكنولوجي للبشرية. إذ نجد العالم اليوم يجعل من طقس الفضاء مادة دسمة ويعمل على إحداث مراكز تنبؤية كبيرة لطقس الفضاء لدوره الكبير في إدارة المخاطر والكوارث وخاصة الاحتباس الحراري وما يعانيه الكوكب من زيادة غاز ثاني أكسيد الكربون بالغلاف الجوي. ولعل ذلك ما يدعو الحكومات إلى اتخاذ خطوات واضحة وجلية باتجاه تطوير علوم الفضاء والفلك في الحد من تأثير الاحتباس الحراري والحد من تأثير المشاكل الناجمة عنه.

في المناهج العلمية

يرى تربويون أن تضمين تكنولوجيا الفضاء في المناهج التعليمية ينعكس إيجاباً على العملية التعليمية، وتسعى إليها جميع المؤسسات لما لها من ارتباط كبير بالذكاء الصنعي والتوجهات العالمية نحو اكتشاف الفضاء والسيطرة عليه. وعليه فإن وجود تكنولوجيا الفضاء في مناهجنا التدريسية بحسب الدكتور العصيري أمر مهم يعود الفضل فيه إلى المركز الوطني لتطوير المناهج الذي أخذ خطوات واضحة ومميزة في هذا المجال، حيث أضاف فصلاً في الجغرافيا يختص بتدريس علم الفلك من الصف الأول الابتدائي إلى الثالث الثانوي، وبالتالي في كل المراحل يوجد دروس حول علوم الفلك موضوعة بدقة متسلسلة متميزة وذات توجه محدد وأهداف واحدة وتجعل الطالب الذي يحب هذا النوع من العلوم متمسكاً بها وتعيده إلى المراجع العلمية الصحيحة والمراكز المحلية المعتمدة. إضافة إلى وجود تعاون مع الأرصاد الجوية فيما يتعلق بالتنبؤات الجوية وطقس الفضاء ومع جهات عديدة لتطوير هذا العلم في الجامعات والمراكز الحكومية.

استعادة التراث

يرتبط اليوم مصير الدول بعلم الفضاء، وعليه فهي تتسابق فيما بينها لتطوير منظومة علوم الفضاء والفلك، ومن هنا يبين رئيس الجمعية الفلكية أن سورية من أكثر الدول أولوية للاهتمام بهذا العلم لما تتميز به من مناخ معتدل وأماكن صالحة للرصد بشكل كبير جداً وصفاء السماء والفصول الأربعة التي تتيح فترات أطول للرصد وموقعها الاستراتيجي في مدار الأرض المناسب من حيث سقوط الطاقة الشمسية والرياح ومن حيث متابعة النجوم، والتي تعتبر جميعها عوامل دافعة إلى تطوير علم الفضاء والفلك إضافة لما تمتلكه من تراث كبير في هذا المجال، فعلى المدى القريب لهذا التراث انطلقت علوم الفضاء والفلك، فكانت أول مزولة شمسية هي مئذنة العروس بالجامع الأموي لابن الشاطر البتاني، وكان عالم الفلك السوري الرقاوي أول من رصد السماء ووضع أسماء النجوم، وهناك مرصد السيار في قاسيون من أوائل المراصد في العالم. كل ذلك يشير إلى وجود تراثي حقيقي سوري في عالم الفلك. وبالتالي ليس علينا إلا أن نستعيد هذا التراث ونطوره، وأن نتقدم في هذه العلوم لكي نتمكن من الحصول على مصادر جديدة للطاقة.

تابع صنعي

ما تقدم يؤكد أن علوم الفضاء ليست للرفاهية أو التنجيم والمتعة، فهي اليوم مرتبطة بحماية الحياة وإعادة الإعمار. فتطوير منظومة علوم الفلك وأن يكون لسورية تابع صنعي، سوف يوفر علينا صور الأقمار الصناعية التي نضطر لشرائها لمعرفة مكامن الثروات الباطنية ومخططات إعادة الإعمار وأماكن الحرائق ودرء الكوارث. كل ذلك يرتبط بهذا العلم. وعليه يرى العصيري أن الوقت قد حان لأن يكون لدينا تابع صنعي على الأقل، وخاصة أننا نمتلك الإمكانيات وجميع فرص إطلاقه متوفرة ولا ينقصنا سوى الإرادة. وعليه هناك ضرورة لوجود لجنة رسمية تضع خطة وطنية لإطلاق التابع الصنعي السوري وليس بالضرورة أن يكون تابعاً كبيراً، قد يكون قمراً صناعياً صغيراً وهو متوفر بأسعار رخيصة في العالم ويفي باحتياجاتنا اليوم.