تشيد المجتمعات والمؤسسات وأفراد المجتمع ظاهرياً بالابتكار والإبداع. هل حقاً يتم دعم الإبداع والمبدعين كما ينبغي؟ سوف تفاجئنا الدراسة التالية بالنتائج التي توصلت إليها.

لقد وجدت الدراسات أن نفوراً عميقاً في الداخل يغلف هذا الإعجاب بالإبداع. تتم الإشادة بالإبداع باعتباره أمراً حيوياً، ويُنظر إليه على أنه شريان الحياة للترفيه الرائع والابتكار والتقدم والأفكار المستقبلية. من الذي لا يريد أن يكون مبدعاً أو أن يوظف موظفين مبدعين؟

لكن علم التحيز الضمني الناشئ كشف أن ما يقوله الناس عن الإبداع ليس بالضرورة ما يشعرون به حيال ذلك. لقد توصلت الأبحاث إلى أننا في الواقع نكره المبدعين والإبداع. لاشعورياً، نرى الإبداع على أنه ضار ومزعج. وكما أوضحت دراسة حديثة، فإن هذا التحيز يمكن أن يثنينا عن القيام بمشروع مبتكر أو توظيف موظف مبدع.

قال جاك جونكالو أستاذ الأعمال في جامعة إلينوي في أوربانا شامبين، والمؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة: لدى الناس بالفعل ارتباطات قوية بين مفهوم الإبداع والارتباطات السلبية الأخرى مثل القيء والسم. العذاب كان آخر هذه الارتباطات.

قضى الدكتور جونكالو عقداً من الزمان في دراسة العوامل الأساسية التي تحفز المبدعين وتلك الأخرى التي تعيقهم. على سبيل المثال وجد هو وزملاؤه أنه في بعض الحالات يمكن أن يحد المعتقد الديني من إبداع الشخص، ذلك أن الإبداع يمكن أن يوفر شعواً بالتحرر للأشخاص الذين ينقبون في الأسرار.

لقد استكشف أيضاً وجهات نظر الناس اللاواعية للإبداع، ووجد أن الابتكار مكروه جزئياً لأنه يمكن أن يكثف مشاعر عدم اليقين.

في إحدى الدراسات المبكرة حول رؤية المجتمع وتعامله مع الإبداع، قسم الدكتور جونكالو موضوعات الدراسة إلى مجموعتين. تم إخبار أعضاء مجموعة واحدة أن بعضهم سيحصل على مكافأة بعد الدراسة، لكن اختيار المستفيدين سيتم عن طريق اليانصيب العشوائي ولن يعتمد على أدائهم. وبطبيعة الحال قدّم هذا إحساساً بعدم اليقين في المجموعة.

المجموعة الأخرى، المجموعة الضابطة، لم تُعرض عليها إمكانية المكافأة، الأمر الذي قضى على حالة عدم اليقين.

ثم أعطى الباحثون هاتين المجموعتين سلسلة من المهام المصممة لقياس شعورهم تجاه الإبداع. وقد تم استخدام معيارين؛ فحص أحدهم آراء المشاركين المعلنة صراحة، والثاني نظر إلى مشاعرهم اللاواعية. هل ما ذكروه عن الإبداع يعكس ما شعروا به بالفعل؟

هذا النوع من البحث يصل إلى ما يعرف بالتحيز الضمني. إنه نفس نوع البحث، بشكل عام، الذي يمكن استخدامه لدراسة شعور الناس تجاه أولئك الذين ينتمون إلى أعراق مختلفة.

لاستكشاف وجهات النظر الواضحة للموضوعات، طلب الباحثون من المشاركين ملء استبيان لتقييم مشاعرهم حول الأفكار التي تم اعتبارها "جديدة" و"مبتكرة" و"أصلية". أعرب المشاركون عن ارتباطات إيجابية بهذه الكلمات.

للتعرف على المزيد من المشاعر الخفية للموضوعات، استخدم الباحثون برنامج كمبيوتر ذكي يُعرف باسم اختبار الارتباط الضمني. إنه يعمل عن طريق قياس وقت رد فعل الشخص موضوع الدراسة على أزواج من الأفكار المعروضة على الشاشة.

على سبيل المثال، تم تقديم الموضوعات بالكلمات من الاستطلاع التي اقترحت الإبداع، وأضدادها ("عملي"، "مفيد")، جنباً إلى جنب مع الكلمات ذات الارتباطات الإيجابية ("أشعة الشمس"، "الضحك"، "الجنة"، "السلام") والارتباطات السلبية ("السم"، "الألم"، "الجحيم"، "القيء").

وجد الباحثون هذه المرة اختلافاً كبيراً في النتائج: عبرت كلتا المجموعتين عن ارتباطات إيجابية بكلمات مثل "عملي" و"مفيد"، لكن المجموعة التي كانت مهيأة للشعور بعدم اليقين (لأن الأعضاء لم يكونوا متأكدين مما إذا كانوا سيحصلون على مكافأة) عبّرت عن المزيد من الارتباطات السلبية بكلمات توحي بالإبداع.

يمكن إرجاع أسباب هذا التحيز الضمني ضد الإبداع إلى الطبيعة التخريبية الجوهرية للإبداعات الجديدة والأصلية. ذلك أن الإبداع يعني التغيير دون اليقين من النتائج المرجوة.

قالت جينيفر مولر، أستاذة الإدارة في جامعة سان دييغو والمؤلفة الرئيسية لورقة البحث الأولى حول التحيز ضد الإبداع: لدينا اعتقاد ضمني بأن الوضع الراهن آمن. الدكتورة مولر الخبيرة في علم الإبداع أضافت: إن الورقة نشأت جزئياً من مشاهدة كيف أعلن مديرو الشركة أنهم يريدون الإبداع، ثم رفضوا الأفكار الجديدة بشكل انعكاسي.

وتشرح مولر: سيقول القادة، نحن مبتكرون، ويقول الموظفون هذه مجرد فكرة، والأفكار لا تأخذنا إلى أي مكان. وعندها يصبح الموظفون غاضبين.

لكنها قالت إن الأشخاص الذين استثمروا في الوضع الراهن، لديهم الكثير من الحوافز لعدم التغيير. قالت: الأفكار الجديدة ليس لها أي جانب إيجابي تقريباً بالنسبة إلى مدير متوسط - لا شيء تقريباً. ولا ننسى أن الهدف من المدير المتوسط هو تلبية مقاييس الأنموذج الحالي.

لاحظ الباحثون أن هذا يخلق معضلة أخرى، لأن الأشخاص في ظروف غامضة قد يحتاجون حقاً إلى حل إبداعي، ومع ذلك يجدون صعوبة في تقبله.

أشار المؤلفون في البحث الأول إلى أن "النتائج التي توصلنا إليها تشير إلى مفارقة عميقة". "تظهر الأبحاث السابقة أن عدم اليقين يحفز البحث عن الأفكار الإبداعية وتوليدها، ومع ذلك تكشف نتائجنا أن عدم اليقين يجعلنا أيضاً أقل قدرة على التعرف على الإبداع، حتى عندما نكون في أمس الحاجة إليه".

بحثت الورقة الأحدث التي أعدها الدكتور جونكالو وفريق آخر، والتي نشرت في مارس، ما إذا كان التحيز الإبداعي قد يؤثر على نوع الموظفين الذين قد يوظفهم أصحاب العمل.

هذه المرة طلبوا من مجموعتين من الأشخاص قراءة مقاطع عن مرشح وظيفي افتراضي يُدعى مايكل، والذي وُصف بأنه مبتكر للغاية ورائد أعمال.

بالنسبة إلى مجموعة واحدة من القراء، طبق مايكل غرائزه وقدراته الإبداعية على تصميم حذاء جري جديد. بالنسبة إلى الآخرين، قام مايكل بتطبيق إبداعه على ابتكار لعبة جنسية جديدة. كانت نسختا القصة عن إبداع مايكل متطابقتين باستثناء مواصفات الشيء الذي كان يصنعه.

ثم طُلب من المجموعتين الإجابة على أسئلة مثل "ما مدى إبداع مايكل؟" و"ما هو تقديركم لمايكل المفكر التقليدي مقابل المفكر المبتكر؟".

كان هناك اختلاف في ردود مجموعتي الدراسة: المجموعة التي تعاملت مع مايكل الذي أبدع نوعاً جديداً من أحذية الجري، صنفته على أنه أكثر إبداعاً من المجموعة التي علمت أنه مفكر جديد ومبدع ألعاب جنسية.

بعد ذلك، باستخدام اختبار لقياس التحيز الضمني - كما في الدراسة السابقة - نظر الباحثون فيما إذا كان الأشخاص الذين شملتهم الدراسة في المجموعتين قد شعروا بالفعل بالطريقة التي قالوا عنها بشأن مايكل. على مستوى اللاوعي، رأت المجموعتان أنه مبدع بنفس القدر.

بالنسبة إلى الباحثين، اقترحوا أن الوصمة الاجتماعية تشوش على تصوراتنا للإبداع. قال الدكتور جونكالو: ليس من العدل أن يتم اعتماد مخترع الحذاء بشكل صريح كمبدع وعدم اعتماد مخترع لعبة الجنس. إن هذا تحيز سببه الوصمة الاجتماعية.

قال إنه لاحظ أن عدم الارتياح بفكرة لعبة الجنس ظهر بين المراجعين الأقران أيضاً. قال الدكتور جونكالو: حتى المراجعين قالوا عن التجربة إنها رائعة، لكنهم لم يكتبوا مطلقاً "لعبة الجنس".

قد لا تكون هذه مفاجأة. بعد كل شيء، قد يكون من الخطر التبشير بإبداع شخص يعمل في مجال موصوم اجتماعياً مثل تصميم لعبة جنسية.

قالت ميليسا فيرغسون، أستاذة علم النفس في جامعة ييل ومؤلفة مشاركة في الدراسة الأخيرة، إن البحث الناشئ عن التحيز الضمني في الإبداع يكشف عن نتيجة قوية وأكبر. وقالت: أحكام الشعوب لا يتم التقاطها فقط من خلال ما يقولون إنهم يعتقدون.

في النهاية، يمكن أن نكتب مجلدات، كما يقول الباحثون، حول من يتم الاحتفاء به بيننا على أنه مبدع، وذلك الذي يتم وصم عمله في وقته الخاص بحيث لا يمكن الاعتراف به كمساهمة إبداعية.

على سبيل المثال تشير الدراسة إلى أن الفنان هنري دو تولوس لوتريك، الذي رسم الغانيات ومدمني المخدرات في أواخر القرن التاسع عشر "تم احتضانه في مشهد الكباريه في باريس، لكنه لم يحظ بشهرة واسعة إلا بعد وفاته".

إن التاريخ يعج بأمثلة عن مبدعين لفظهم مجتمعهم في زمنهم. لكن الصادم في الدراسة الحديثة أن التاريخ ما زال يكرر نفسه بأشكال جديدة، وأن المجتمعات مازالت مقيدة ومدفوعة بالأحكام المسبقة والخوف من التغيير في نظرتها إلى الإبداع.

المقال مقتبس من كتاب "الإلهام: فهم الإبداع. رحلة عبر الفن والعلم والروح"، الذي ستنشره كتب مارينر.

"مات ريتشل" هو المؤلف الأكثر مبيعاً والمراسل الحائز على جائزة بوليتزر، يكتب في مجال العلوم والتكنولوجيا والأعمال ورواية القصص القائمة على السرد حول هذه القضايا.

----

بقلم: مات ريتشل

ترجمة عن موقع: New York Times