حقق علماء معهد جامعة كاليفورنيا UCI قفزة نوعية إلى الأمام في مجال التسلسل الجيني. وأكدوا أن هذا البحث سوف يؤدي إلى تحسين الطب الشخصي وفهم التطور الذي خضع ويخضع له الجنس البشري.

قبل الحديث المفصل عن الإنزيم الجديد قيد الدراسة، لنتذكر معاً ما هي الإنزيمات: إنها عبارة عن جزيئات حيوية مصنوعة من البروتينات. تساعد على تحفيز وزيادة سرعة التفاعلات الكيميائية داخل الخلايا الحيويّة في جسم الإنسان. تتكون الإنزيمات من أحماض أمينية عديدة لتنشأ سلسلة طويلة يطلق عليها مصطلح البروتينات وهي المكوّن الأساس لأي إنزيم، عادةً ما تتكون بعض الانحناءات في سلسلة الأحماض الأمينية، ما يعطي الإنزيم شكله ووظيفته المميزة.

بعد أن تعرّفنا على ماهية الإنزيمات، فلنتعرف على آلية عملها:

أنموذج القفل والمفتاح: هناك أنموذج يدعى القفل والمفتاح تم استحداثه لأول مرة عام 1894، يتمّ استخدام هذا الأنموذج غالباً لوصف آلية عمل الإنزيمات والأدوية المختلفة، يرتبط الإنزيم الممثل بالمفتاح بالقفل الذي يلائمه وهو المكان النّشط لاستقبال هذا الإنزيم.

يلائم المكان النشط في شكله وأبعاده الإنزيم المرتبط به ولا يلائم أي من الإنزيمات الأخرى، ممّا يجعل لهذا المكان خصوصيته للقيام بالوظائف المختلفة.

أنموذج التلاؤم المستحث: تم إجراء بعض التعديلات فيما بعد على نظرية القفل والمفتاح لينتج أنموذج جديد ومستحدث يدعى التلاؤم المستحث. تصف هذه النظرية آلية عمل الإنزيمات، بأن ارتباط الإنزيم بالمكان النشط يغير من شكل المكان النّشط المستقبل للإنزيم لينتج شكل جديد مسؤول عن تحفيز وزيادة سرعة التفاعلات الكيميائية.

بقي أن نذكر بأهم وظائف الإنزيمات في جسم الكائن الحي وهي:

نقل الإشارات: حيث تعمل الإنزيمات على نقل الإشارات الفيزيائية والكيميائية والتي تساعد على إتمام العمليات الحيوية.

تحليل الجزيئات: للإنزيمات دور مهم في عمليات الهضم حيث تعمل على تحليل وتفتيت الجزيئات الكبيرة التي يتناولها الإنسان، مثل: السكريات، والبروتينات ليسهل امتصاصها بعد ذلك من خلال جدار الأمعاء.

إنتاج الطاقة: تساعد الإنزيمات على إنتاج ثلاثي فوسفات الأدينوزين (ATP) والذي يعمل على تزويد جسم الإنسان بالطاقة لأداء الوظائف المختلفة.

المضخّات الأيونية: للإنزيمات دور مهم في المضخات الأيونية المتواجدة في غشاء كل خلية والتي تعمل على نقل الأيونات من وإلى الخلية.

تنظيم حركة الخلايا: للإنزيمات دور كبير في تنظيم حركة الخلايا، بحيث تعمل على فصل الكروموسومات عند انقسام الخلية وتساعد أيضاً على حركة الأهداب للتخلص من البلغم في المجرى التنفسي للإنسان.

هناك عدّة وظائف أخرى للإنزيمات إذ لها دور فعال في انقباض العضلات، واستجابة الجهاز المناعي، وعملية الشيخوخة. ونظراً لأهمية الإنزيمات الكبيرة فإن التعمق في فهم آلية عملها وإمكانية التحكم بها قاد إلى هذا البحث الجديد الذي نُشر في Science Advances، وفيه كشف باحثون في قسم الكيمياء وقسم الفيزياء وعلم الفلك بجامعة كاليفورنيا عن تفاصيل جديدة حول إنزيم رئيسي يجعل تسلسل الحمض النووي ممكناً. يمثل هذا الاكتشاف قفزة إلى الأمام في عصر الطب الشخصي حيث سيتمكن الأطباء من تصميم علاجات تعتمد على جينومات المرضى أنفسهم .

قال غريغ فايس، أستاذ الكيمياء بجامعة كاليفورنيا - إنترناشونال والمؤلف المشارك في الدراسة الجديدة: تجعل الإنزيمات الحياة ممكنة عن طريق تحفيز التحولات الكيميائية التي قد تستغرق وقتاً طويلاً جداً بالنسبة إلى الكائن الحي. أحد التحولات التي نهتم بها حقاً ضرورية لجميع أشكال الحياة على هذا الكوكب - إنها العملية التي يتم من خلالها نسخ الحمض النووي وإصلاحه.

إن الجزيء الذي درسه الفريق الرائد في معهد جامعة كاليفورنيا UCI هو إنزيم يسمى تاغ، وهو اسم مشتق من الكائنات الحية الدقيقة التي تم اكتشافه فيها لأول مرة في الكائن المائي ثيرموس: Thermos aquaticus. وقد اكتشف العلماء أن الإنزيم تاغ يكرر الحمض النووي. ولبيان أهمية هذا الاكتشاف يكفي أن نقول إن تقنية تفاعل البوليميراز المتسلسل، وهي التقنية التي تدخل ضمن آلاف الاستخدامات بدءاً من الطب الشرعي وصولاً إلى اختبارات تفاعل البوليميراز المتسلسل للكشف عن فيروس كوفيد 19، تستفيد تفاعلات البوليميراز من تقنية الإنزيم تاغ في مضاعفته للحمض النووي.

ولأن إنزيم تاغ يساعد في صنع نسخ جديدة من الحمض النووي، فقد اكتشف فريق البحث أن هذا الإنزيم يتصرف تماماً على عكس ما كان يعتقده العلماء سابقاً. إذ بدلاً من التصرف كآلة جيدة التزييت وفعالة تعمل باستمرار على إنتاج نسخ الحمض النووي، أوضح فايس أن الإنزيم يتصرف مثل المتسوق العشوائي الذي يتجول في ممرات المتجر، ويرمي كل ما يراه في عربة التسوق.

قال فايس: بدلاً من اختيار كل قطعة بعناية لإضافتها إلى سلسلة الحمض النووي، يلتقط الإنزيم العشرات من العناصر غير الملائمة لكل قطعة ويضيفها بنجاح. مثل المتسوق الذي يفحص العناصر من قائمة التسوق، ثم يعمل الإنزيم على اختبار كل جزء في تسلسل الحمض النووي الذي يحاول تكراره.

من المعروف أن إنزيم تاغ يرفض أي عناصر خاطئة تهبط في عربة التسوق الخاصة به - وهذا الرفض هو المفتاح، رغم كل شيء، لتكرار تسلسل الحمض النووي بنجاح. ما يثير الدهشة في العمل الجديد، هو مدى تكرار رفض تاغ للقواعد الصحيحة. إنه يعادل متسوقاً يستولي على نصف دزينة من علب الطماطم المتطابقة، ويضعها في العربة، ويختبرها جميعاً عندما تكون هناك حاجة لاختبار واحدة فقط.

الرسالة التي يجب أخذها إلى المنزل: إن إنزيم تاغ أقل كفاءة بكثير في أداء وظيفته مما يمكن أن يكون عليه.

هذا الاكتشاف يمثل قفزة نحو إحداث ثورة في الرعاية الطبية، كما أوضح فيليب كولينز، الأستاذ في قسم الفيزياء وعلم الفلك في جامعة كاليفورنيا، وهو مؤلف مشارك في البحث الجديد. هذا لأنه إذا فهم العلماء كيفية عمل تاغ، فيمكنهم فهم مدى دقة الجينوم المتسلسل للشخص بشكل أفضل.

قال كولينز: كل شخص لديه جينوم مختلف قليلاً، مع طفرات مختلفة في أماكن مختلفة. بعض هذه الجينومات والطفرات مسؤول عن الأمراض، والبعض الآخر مسؤول عن أي شيء على الإطلاق. لمعرفة ما إذا كانت هذه الاختلافات مهمة في مجال تقديم الرعاية الصحية - لوصف الأدوية بشكل صحيح - نحتاج إلى معرفة الاختلافات بدقة.

وأضاف كولينز، الذي ابتكر مختبره أجهزة مقياس النانو لدراسة سلوك الإنزيم تاغ: لا يعرف العلماء كيف تحقق هذه الإنزيمات دقتها. كيف تضمن للمريض أنك قمت بتسلسل الحمض النووي بدقة عندما يكون مختلفاً عن الجينوم البشري المقبول؟ يسأل كولينز، هل يعاني المريض حقاً من طفرة نادرة، أم أن الإنزيم ارتكب خطأً ببساطة؟

قال فايس: يمكن استخدام هذا العمل لتطوير نسخ محسّنة من تاغ تضيع وقتاً أقل أثناء عمل نسخ من الحمض النووي.

إن آثار هذا العمل لا تتوقف عند الطب فقط، بل كل مجال علمي يعتمد على تسلسل دقيق للحمض النووي سيستفيد من فهم أفضل لكيفية عمل الإنزيم تاغ. في تفسير التاريخ التطوري باستخدام الحمض النووي القديم، على سبيل المثال، يعتمد العلماء على افتراضات حول كيفية تغير الحمض النووي بمرور الوقت، وتعتمد هذه الافتراضات على التسلسل الجيني الدقيق.

قال كولينز: لقد دخلنا قرن البيانات الجينومية. في بداية القرن كشفنا الجينوم البشري لأول مرة، وبدأنا نفهم الكائنات الحية والأنواع والتاريخ البشري بهذه المعلومات المكتشفة حديثاً من علم الجينوم، ولكن هذه المعلومات الجينومية مفيدة فقط إذا كانت دقيقة. وفي بحثنا الجديد نؤكد أننا اقتربنا من الدقة المرجوة بمقدار خطوة هائلة. إنه بحق قفزة نحو المستقبل.

----

بواسطة: جامعة كاليفورنيا – ايرفين

المصدر: SciTechDaily