هناك قسم في علم الأحياء الحديث في الجامعات يدرس تركيب ووظيفة المورثات على المستوى الجزيئي لتناقل المعلومات الوراثية من جيل إلى آخر، وهو علم يوضح كيفية حدوث الطفرات الوراثية في الخلايا بين الأجيال، إلا أنه اليوم يعتبر أهم الوافدين على العلوم الإنسانية الطبية. وهو الذي أحدث ثورة في التقدم الطبي، بفضل قدرته على فحص المادة الوراثية للكائن الحي، والتنبؤ بكثير من الأمراض الجينية التي تتسبب في حدوث التشوهات الخلقية والأمراض المعقدة.

يشير الدكتور إياد الشطي رئيس مجلس أمناء جامعة القلمون ورئيس الرابطة السورية للمشرحين المرضيين في مقدمته وهو يعرض أبحاثه الحديثة حول الوراثة الجزيئية، إلى الأهمية التي وصل إليها هذا العلم: أن جائزة نوبل لعام 2018 كانت حول العلاج المناعي. وفي عام 2019 كانت للعلاجات الصدرية وفقاً للوراثة الجزيئية. وفي عام 2020 كانت كل الأبحاث التي حصلت على جوائز مبنية على هذه الوراثة. وفي بداية شهر نيسان من هذا العام نشرت مجلة ساينس بحثاً حول الجين الإنساني كاملاً. فقد شهدت السنوات الأخيرة من الطب نقلة نوعية إلى الطب المستهدف والمشخصن الذي استكمل بالطب الدقيق المبني على أساس الوراثة الجزيئية. وخاصة بعد أن أسهمت التقنيات المخبرية الجزيئية في فك شيفرات الحمض النووي للجينوم البشري، وأصبح هذا الجينوم جزءً أساسياً من كل أنواع الاختصاصات الطبية، ليبدأ عهد جديد يسهم في معرفة التغير الوظيفي لكثير من الجينات في جسم الإنسان.

لسنا بعيدين

يوضح الشطي كيف دخلت الوراثة الجزيئية في علم الأورام منذ بداية عام 1998 بشكل متواضع جداً، ثم أصبحت الأساس في الإعتلالات العصبية والقلبية. ويشير إلى أن عصر الوراثة بدأ في سورية مع عقد المؤتمر الأول بتاريخ 15/9/2019 فهناك ثلاثة من خيرة طالباتنا اليوم لديهن ثلاثة مواضيع بحثية، ليست تكرارية في الوراثة الجزيئية ويُقدم لهن دعم كبير من وزارة التعليم العالي وباقي الوزارات المعنية، حيث يشرف على هذه الأبحاث أساتذة سوريون من الداخل والمغترب، أحدهم رئيس قسم الوراثة الجزئية، والثاني عميد الكلية مشهورة في المغترب، والثالث يعتبر معجماً في أمريكا لأمراض الدم عند الأطفال، وهؤلاء هم المشرفون المشاركون على أبحاث الطالبات. وبهذا نكون قد وصلنا إلى ما نسعى إليه. وتعتبر سورية في حالة تطور مستمر في الاكتشافات العلمية وليست مجرد متلقية للتكنولوجيا كما يريدون لها أن تشتري الآلات المرتفعة الثمن دون أن يقدموا لها كيفية تصنيعها أو حتى صيانتها.

الوراثة الجزيئية

الكشف الجيني

يهدف الفحص الجيني إلى تحليل ومعرفة الجينات التي تكون سبباً في حدوث طفرات جينية، وبالتالي نشوء أمراض وراثية وسرطانية تثقل كاهل الوالدين والمجتمع. وفي هذا السياق، تأتي مبادرات عديدة لدعم الطب الجيني كأحد أبرز المشاريع المهمة من أجل تعزيز الجهود المبذولة في الكشف عن الأمراض الوراثية في مرحلة مبكرة، وبالتالي تفادي التأثيرات المستقبلية والحصول على جيل آمن.

وظهر أخيراً العديد من الإعتلالات المعقدة التي نُسبت لاضطرابات جينية واختلال في النمط الوراثي في الخلية، ومنها بحسب عروض الدكتور إياد الشطي: فقر الدم المنجلي الذي يكون عبارة عن اختلال في هيموغلوبين الدم، ومتلازمة داون التي يكون نسخة إضافية من المادة الوراثية على "كروموسوم 21"، ينتج عنه اضطراب ذهني وتأخر في النمو الجسدي. ومرض هنتنغتون الذي يكون بسبب اختلال جيني واحد وفيه يعاني الشخص المصاب اعتلالات عصبية وحركية ونفسية، واضطراباً في القدرات الوظيفية. وهناك الأمراض السرطانية، حيث تتحكم الجينات بشكل مباشر في انقسام الخلايا في جسم الإنسان، لضمان تجددها، وحين حدوث طفرات في التسلسل الوراثي للجين ينتج عن ذلك انقسام لامحدود في خلايا الأنسجة، مؤدياً إلى السرطان، ويأتي في مقدمة ذلك سرطانات الثدي والمبيض.

الأكثر شيوعاً

ويبين رئيس الرابطة السورية للمشرحين المرضيين ورئيس المجلس العلمي للتشريح المرضي، أنه من الأمراض السرطانية الشائعة على جميع مستوى الأعمار هي سرطانات الدم، وفي مقدمتها اللوكيميا أو ما يعرف بالاختلال في عدد كريات الدم البيضاء نتيجة الطفرات الجينية التي يتم فيها تغير مواقع بعض الجينات من مكان إلى آخر مثل جين BCR-ABL. كما أثبتت الدراسات حديثاً ارتباط العديد من الأورام، ويأتي في مقدمتها كل من سرطانات القولون والرئة والبنكرياس، بحدوث طفرات وراثية بنسبة تجاوزت 50% من مجموع الحالات المصابة.

ويرى الشطي أن في إحصاءات دقيقة لأمراض السرطان لحد عام 2021 نجد أنه لدينا 17500 حالة سرطان 39 % منها عند النساء، سرطان ثدي و20% عند الذكور، سرطان رئة، وعند الأطفال نصف الأورام ليموفوما لوكيما وهناك سرطانات الدماغ من 20 حتى 22 % من المجموع.

مقارنات

في مقارنة بسيطة حول ما يصرف على هذا النوع من الأبحاث في أمريكا وفي بلد مثل سورية، نجد أنه في أمريكا تكون الصحة عبارة عن صناعة وليست موضوعاً إنسانياً وهي عبارة عن شركات تشكل الداعية 20% من دخلها وينتج عنها بحوث رائعة، ولكن طريقة تطبيقها تكون مختلفة، إذ يوجد لديهم كتاب علمي يصدر في كل عام حول آخر الأبحاث الطبيعة، يتكلمون فيه عن السوق الصحية، ونجد أن 17.1% من المجموع البحث القومي الأمريكي يذهب إلى الأمراض السرطانية، وبالتالي يجب أن تكون الصحة في أمريكا بحسب هذه الإحصائية هي رقم واحد. إلا أنه وبالرغم من الدراسات الرائعة والإنفاق الكبير، فإن الصحة في إنكلترا هي رقم واحد.

وبالنسبة إلى سورية، يبين الشطي أنه حتى الآن نحن نسير على تعريف السرطان بأنه خلايا شاذة وانقسامات وهو التعريف الذي وضعه عالم بيولوجي إنكليزي عام 1952 وقد انتهت هذه التعريفات عالمياً. ففي عام 2006 كان التعريف جينات وطفرات، وفي عام 2016 حدث تطوير على هذا التعريف. ولكن من حيث متابعة الطلبة في الكليات، فالأساتذة في كلية الطب بجامعة دمشق وفي باقي الجامعات والكليات، ليسوا بعيدين عن هذا الموضوع، وقد شاركوا في تقديم أبحاث على مستوى راق جداً، فقد تجاوزت مرحلة التشخيص إلى وضع الإنذار وإلى وضع العلاج.

نقلة نوعية

ويؤكد الشطي أنه أصبح لدينا نقلة نوعية وكبيرة في موضوع الخزعات السائلة؛ حيث نأخذ الخزعة مرة واحدة. وقد أصبح أطباؤنا يتابعون جزيئات من الخلايا الورمية الموجودة في الدم المحيطي وهي التي تسمى الخزعة السائلة كوسيلة لمتابعة المريض. ولدينا خبراء من خيرة طلبتنا متواجدين في أمريكا مثل الدكتور يحيى الشمالي الذي لديه واحد من أكبر المخابر بالعالم في هذا الموضوع، وسيكون مشاركاً في المؤتمر العلمي الثاني في الشهر الثامن من هذا العام.

وهناك سلاح ثان لأطباء الأورام في سورية كما في العالم المتقدم، فقد كانوا يعملون على قتل الخلية الورمية وهو أمر جيد وضروري، ولكن حالياً لابد من النظر بالبيئة المحيطة بالخلية السرطانية، بحيث يُقطع عن الخلية الغذاء والحاثات التي تتركها موجودة. وبالتالي لدينا منذ 4 سنوات شيء جديد وهو معالجة الخلية بعيداً عن البيئة السامحة لها بالعيش.