في ظل الثورة الرقمية التي غيرت مفاهيم كثيرة من حولها، يتمحور الحديث بشكل متصاعد حول مستقبل الإعلام الجديد، والشكل المستقبلي للإنترنت وتطبيقاتها في ظل هذه الثورة التي أحدثت الكثير من التغييرات، والتي شملت شتى مناحي الحياة ولم تقتصر على الإعلام فقط، بالرغم من أنه كان من أشد المتأثرين بها والمستفيدين منها.

إن نقاطاً وتحولات تاريخية ومفصلية مر بها الإعلام عبر مراحل تطوره المختلفة، أثرت في عناصر الرسالة الإعلامية وخاصة في مرسلها ومتلقيها، وبدلت في شكل الإعلام وأدوات إنتاجه واستهلاكه ونشره وتخزينه، وزادت في عدد الحواس المخصصة لإدراكه، كما أتاحت الفرصة لأناس عاديين أن يتحكموا في نشر وصنع المحتوى ووصوله إلى المتلقي.

ولعل مسألة تنبؤ الباحثين باختفاء الهاتف المحمول خلال العشر سنوات القادمة واستبداله بالوشم الإلكتروني، هي مسألة باتت تثير استغراب ودهشة القليلين (على الرغم من كونها منجزاً ضخماً)، كما أن مسألة الازدياد الكبير في حجم المحتوى الذي ينتجه المواطنون، ممن ينتمون إلى خارج المجال الإعلامي الاحترافي المنظم، أو ما بمعنى آخر ما سينتجه المواطن الصحفي سيزيد عن 60% من حجم المحتوى العالمي الموجود على شبكة الإنترنت، وبحسب دراسة نشرها موقع marketresearch.com عن حجم سوق برمجيات المحتوى العالمي الذي ينشئه المستخدم (UGC) ، والحالة والتوقعات 2020-2026 والتي ذكر فيها بأنه "من المتوقع أن يصل حجم سوق برمجيات المحتوى الذي ينشئه المستخدم (UGC) العالمي إلى 447 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2026 ، بعد أن كان قد بلغ 130 مليار دولار أمريكي في عام 2019 ، وذلك بمعدل نمو سنوي مركب قدره 19% خلال الفترة 2021-2026".

هذا المحتوى سيكون نتاجاً من قبل أفرادٍ (مختلفي الأهواء والانتماءات، لكنهم يمتلكون الأدوات اللازمة لإنتاجه ونشره) وليس من قبل مؤسسات احترافية. وهنا نكون أمام فرصة جديدة أو أمام ورطة ومعضلة أكبر تتمثل في سيطرة المحتوى الذي يروج له من يملكون التكنولوجيا ويستطيعون استخدامها، ويروجون لأفكارهم التي تهدف في أغلب الأحيان إلى تحقيق كسب المال، وليس تحقيق أهداف أخرى، وعندها ستكون مهمة من يرغبون في نشر أفكارهم المعادية لطرف ما أو دين أو عرق ما أسهل وأيسر، فيمكنهم أن يصنعوا عدداً من البرمجيات أو ما باتوا يعرفون اليوم باليوتيوبرز أو الإنفلونسرز، المؤثرين والمشاهير على مواقع التواصل الاجتماعي ويقولون من خلالهم وعبر ألسنتهم ما لا يستطيعون قوله بأنفسهم عبر منصاتهم الرسمية والشخصية، وهي ظاهرة باتت تأخذ أبعاداً أوسع في ظل ما يجري من تجاذبات سياسية بين الفرق السياسية.

لا شك بأن خطر ذوبان الهوية العربية وضياعها، بات مسألةً جدية وشديدة الخطورة وأصبحت تزداد وتتضح ملامحها يوماً بعد يوم، وخاصةً بعد اقتراب نهاية عصر الإعلام التقليدي (عصر الاتصال الجماهيري الواسع النطاق)، وسيطرة تقنيات ووسائل ومفاهيم الإعلام الجديد، الذي بات قادراً على تحقيق خصائص مهمة كان الإعلام التقليدي عاجزاً عن تحقيقها بحكم مقدراته المحدودة، إذا ما قورنت بمقدرات الإعلام الجديد والتي تتمثل بالفردية والتخصيص Individuality And Customization للمتلقي، بالإضافة إلى خاصيته الأساسية المتمثلة بالتفاعلية، والكثير غيرها من الخصائص التي ميزته عما سبقة من أشكالٍ إعلامية.

تحولات كبرى في تاريخ الإنسانية

هناك ثلاث نقاط جوهرية في تاريخ الإنسانية، يجمع الباحثون بأنها شكلت نقاطاً مفصلية في تاريخ الحضارة الإنسانية وشكلت نقاطاً مفصليه في تطورها، حيث تمثلت النقطة الأولى باختراع الأبجدية التي كان لها التأثير الأكبر في الإنسانية، ومن نعم الله علينا وهي مصدر فخر لنا بأنها ولدت في أرضنا السورية، الأمر الثاني تمثل باختراع الطباعة الحديثة، والأحرف المتحركة على يد المخترع الألماني يوهان غوتنبرغ 1440 التي أحدثت ثورة في عالم الطباعة الحديثة، وقضت على الطباعة الخشبية التي سيطرت لعقود طويلة، والأمر الثالث هو مسالة التحول نحو الرقمية (رقمنة العالم) والانتقال من التماثلية إلى الرقمية، وإمكانية الكتابة باللغة الرقمية التي وفرت إمكانية التفاهم بين الإنسان والآلة؛ حيث شهدت الثورة الصناعية الثالثة الانتقال من التكنولوجيا الآلية والإلكترونيات التناظرية إلى الإلكترونيات الرقمية التي بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين وخاصة مع بدء تبني وانتشار الحواسيب وتوفير إمكانية حفظ السجلات رقمياً.

تطورات مفصلية

إذا حاولنا أن نفهم دور الإعلام وتأثيره في العالم، فيمكن أن نقول بشكل بديهي بأن جيل ما قبل الإنترنت لا يشبه بأي شكلٍ من الأشكال جيل ما بعد الإنترنت، ومراحل تطور الإنترنت شهدت حتى اليوم نقاطاً مفصلية قام الباحثون بتقسيمها لاحقاً إلى تقسيمات عدة. فكما ذكرنا هذه التحولات الأساسية الكبرى والمفصلية في تاريخ الإنسانية كان يقابلها في الجانب الآخر، ثلاثة تحولات كبرى جرت في تاريخ تطور الإنترنت من نشأته في فترة الستينيات من القرن الماضي كمشروع عسكري، وهو انطلاق شبكة وكالة مشاريع الأبحاث المتطورة في الولايات المتحدة الأمريكية، (ARPANET)، والتي هي من أوائل شبكات الحاسوب في العالم مجال نقل البيانات باستخدام تقنية تبديل الرزم، ولاحقاً توسعت وتطورت مهامها وأهدافها، حيث ربطت بين عددٍ من الجامعات والمؤسسات البحثيّة في الولايات المتحدة، واستخدمت لأغراض علميّة وأكاديميّة، وأصبحت تشكل نواة الإنترنت المستقبلي لتضم شبكة من الحواسيب العسكرية والجامعية، ووضعت قواعد تشغيل الشبكة الأساس لتأمين اتصال سريع نسبياً وخالٍ من الأخطاء بين حاسوب وآخر.

أما التطور الآخر فتمثل باختراع تيم برنرز لي الويب عام 1992 وبدء ظهور مواقع الويب للجيل الأول ويب 1.0 ولاحقاً ظهور المواقع الديناميكية وتحول المواقع إلى الويب 2.5 وحدوث تحول جذري في وظائف أهم عنصرين من عملية الاتصال وهما المرسل والمتلقي، فلم يعد المرسل ذلك الشخص الذي يملك كامل السيطرة كما هي الحال في وسائل الإعلام التقليدية، ولم يعد المتلقي ذلك المتلقي السلبي الذي يتلقى كل ما يعرض عليه، فقد حصل تغير في إمكانية حصول رد الفعل، وعرض ردة الفعل تلك.

أما التطور الثالث الكبير الذي شهده الإنترنت، فيتمثل بالوصول إلى عصر الويب 3.0 أو ما يعرف بالإنترنت الدلالية أو الإنترنت ذي المعنى، وكل ذلك مرتبط بالنظريات الدلالية وما ستحدثه في المستقبل القريب من تطورات كبيرة في شكل استهلاكنا للمحتوى وطرق عرضه ونشره وتسويقة.

من هنا نجد أن قوة الإنترنت ومقدرته على إحداث تحولاتٍ وتغييرات جذرية في المجتمع في تصاعد مستمر، ووجد الباحثون أنه عند دراسة تأثير الإنترنت على المجتمع بأن ملامح وأوجه المجتمع المعلوماتي تؤكد على أن الإعصار الكبير سوف يجتاح الأمم، وسوف يستأصل كل الأسس الفكرية والعقائدية والثقافية ويحولها إلى قطيعٍ إلكتروني يستهلك كل ماتنتجه تلك الدول.

ولا بد أن نتحدث هنا عما كان يعرف بنظرية دوامة الصمت (لولب الصمت) Spiral of Silence التي وضعتها العالمة الألمانية إليزابيث نويمان عام 1974 وهي من أهم وأولى النظريات الإعلامية، وقدمتها في سلوك الجماهير تجاه الأحداث المجتمعية. وتقوم دعائم هذه النظرية على أساس أن الفرد يعيش في مجتمع ويتفاعل مع بيئة الرأي العام بمقوماته وعوامل تشكيله، لذلك فالفرد يميل إلى تشكيل رأيه طبقاً للرأي العام السائد في المجتمع الموجود فيه ليتكون الرأي العام بما يتفق مع الأفكار التي تدعمها وسائل الإعلام فيتشكل الرأي العام الجماهيري الموحد. أما معارضو هذا التوجه أو ذلك الرأي، فإنهم يتخذون موقف الصمت خوفاً من اضطهاد الجماعة وخوفاً من العزلة الاجتماعية، وبالتالي فإنهم إذا آمنوا بآراء مخالفة لما تعرضه وسائل الإعلام والاتصال، فإنهم يحجبون آراءهم الشخصية ويمتنعون عن المشاركة في الحديث. وهنا يكون الصمت هو تعبير عن الرفض لا القبول.

ربما جاءت نظرية CNN Effect لتعزز مدى التأثير القوي والكبير الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام التقليدي (التي لم تكن تقليدية في تلك الفترة)، والتي تستطيع عن طريق قوتها أن تفرضه وهو ما كان ذكره إيناسو رامونة في كتابه "الصورة وطغيان الاتصال" عن الدور الذي تستطيع وسائل الإعلام أن تحدثه بالإفراط بالبث المباشر، وما إلى هناك من أمور فرضها الإعلام في تلك الفترة نتيجة التلاقي بين قطاعي الاتصالات والإعلام والاندماج الذي حصل بينهما، وهو الأمر الذي لعبته الـCNN بحرفية غير مسبوقة خلال حرب الخليج وعملية تحرير الكويت وخلال تغطيتها حروب الصومال والحرب في البوسنة والهرسك وغيرها، حتى إن البعض ذهب إلى حد المطالبة بمنح الـCNN مقعداً في مجلس الأمن للدلالة على التأثير الكبير الذي كانت تحدثه في العالم.

لا شك أن ماكلوهان عندما تحدث عن تحول العالم إلى قرية كونية صغيرة في عام 1963 كان متأثراً بشكل كبير بالتلفاز الذي بات يدخل البيوت ويمارس تأثيره المباشر على الأفراد وبات قادراً على تغيير سلوكهم، وهذا فعلاً ما حصل؛ إذ إن ذلك الوافد الجديد إلى بيوتنا أصبح مصدر التأثير الأكبر في سلوكنا وعاداتنا وسلوك أبنائنا وتصرفاتهم، ولا شك أن الحديث عن العولمة والأمركة والتغريب والأثر الذي تحدثه في المجتمعات مسألة طويلة، فنحن أمام محاولات جدية لإحداث حالة من التجانس العالمي للثقافات، وتحدث الباحث جورج ريترز صاحب كتاب McDonalization of society عن عملية ماكدونالزيشن على أنها الطريقة التي أصبحت مبادئ مطاعم الوجبات السريعة تهيمن بها على المزيد من قطاعات الأفكار الحديثة حول التجانس العالمي للثقافات بسبب العولمة؛ فماكدونالز هو إنتاج ثانوي (الأمركة والتقريب) الذي هو جزء من ظاهرة العولمة الأوسع، وتستخدم المصطلحات للإشارة إلى التاثير الذي تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية في جميع أنحاء العالم والهوس الأمريكي للتميز في كل مجال من مجالات الحياة، إذ تغلغلت الأفكار والقيم الأمريكية في كل أسرة في العالم تقريباً وذلك بفضل القنوات الفضائية والإنترنت؛ حيث تتبع سلاسل ماكدونالز نفس المبادئ والممارسات فيما يتعلق بأعمالهم وتعد هذه الممارسات هي التي ألهمت ماكدونالزيشن.

ومع كل هذا التطور الهائل، والخطر المحدق لم نعد قادرين على الفصل بين الإعلام والإنترنت، فهما مترابطان في سلسلة واحدة يؤثران ويتأثران ببعض حتى أصبحا كروح واحدة يصعب الفصل بينهما، تنشر فيها معلوماتنا اليومية وأفكارنا وأفكار أخرى باتت تأتينا معلبة جاهزة تستهدفنا جميعاً ونستهلكها بسرعة وسهولة، لكن يكون لها تأثير أعمق خاصة بين الجيل الأصغر الذي شب على عالم جديد قد عرفناه عندما اشتعل الرأس شيباً.

----

المراجع:

[1] ثقافة الحوار والاختلاف في ضوء نظرية دوامة الصمت: دراسة الحالة اليمنية، عبدالله بخاش

[2] مدخل إلى العلاقات الدولية: أزمة العولمة وآفاق العالمية، د. مروة فكري.

[3]The McDonaldization of Society 5 George Ritzer,‏

[4] https://www.marketresearch.com/QYResearch-Group-v3531/Global-User-Generated-Content-UGC-13615161/