عندما تحدث هفوات في الذاكرة، فمن السهل والمنطقي إلقاء اللوم على التكنولوجيا التي اعتمدناها مؤخراً. والسؤال هنا: هل وجود ذاكرة أكبر في جيوبنا يعني وجود القليل منها في رؤوسنا؟ قبل الهواتف الذكية، كانت رؤوسنا تحتوي على ذاكرة تخزين مؤقتة لأرقام الهواتف وخريطة معرفية، تم إنشاؤها بمرور الوقت، والتي تسمح لنا بالتنقل، ولكن بالنسبة إلى مستخدمي الهواتف الذكية، لم يعد هذا متوفراً.

تشكل أدمغتنا وهواتفنا الذكية شبكة معقدة من التفاعلات؛ فقد تزايد استخدام الهواتف الذكية منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وكذلك الإنترنت بشكل عام. أصبحت الفترات الطويلة من التوتر والعزلة والإرهاق موضوعات شائعة منذ آذار 2020 بسبب تأثيرها على الذاكرة. ما زلنا - محطمين، ليس فقط بسبب كورونا ولكن أيضاً بسبب الأخبار المحلية والعالمية السيئة؛ حيث يلجأ الكثير منا لتهدئة النفس وتسليتها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، يبدو أن إشعارات الهاتف ومتابعتنا لها تؤثر أيضاً على ماذا نتذكر وكيف نتذكر. هل نعتمد على الهواتف الذكية لدرجة أنها ستغير في النهاية طريقة عمل ذاكرتنا (تسمى أحياناً فقدان الذاكرة الرقمي)؟ أو هل ننسى أحياناً بعض الأشياء عندما لا نتذكر رسائل التذكير؟

انقسم علماء الأعصاب حول المسألة . يقول كريس بيرد أستاذ علم الأعصاب الإدراكي في كلية علم النفس بجامعة ساسكس والذي يدير بحثاً حول الذاكرة العرضية: "لقد قمنا بتدوين ملاحظات في أجهزة خارجية، وهذا مكّننا من التمتع بحياة أكثر تعقيداً. ليس لدي مشكلة في استخدام الأجهزة الخارجية لزيادة الذاكرة. نحن نفعل ذلك أكثر، لكن هذا يوفر الوقت للتركيز وتذكر أشياء أخرى". فهو يعتقد أن الأشياء التي نستخدم هواتفنا لتذكرها، يصعب تذكرها بالنسبة إلى معظم الأدمغة البشرية. وهو يعتقد أنه لم يتم تطوير أدمغتنا لتتذكر أشياء محددة للغاية لمرة واحدة. فقبل أن تكون لدينا أجهزة، كان عليك بذل جهد كبير للتذكر.

ويحذر البروفيسور أوليفر هاردت، الذي يدرس البيولوجيا العصبية للذاكرة والنسيان في جامعة ماكجيل في مونتريال: "بمجرد التوقف عن استخدام ذاكرتك، سيزداد الأمر سوءاً، ما يجعلك تستخدم أجهزتك بشكل أكبر. إننا نستخدمها في كل شيء. فهي مريحة للغاية، ولكن الراحة لها ثمن. إذ من الجيد أن تشغل رأسك بأشياء معينة".

ويقول هاردت إن الاستخدام المطول لنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) قد يخفض كثافة المادة الرمادية في الحُصين. يترافق انخفاض كثافة المادة الرمادية في منطقة الدماغ هذه مع مجموعة متنوعة من الأعراض، مثل زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب والأمراض النفسية الأخرى، إضافة إلى أشكال معينة من الخرف. لا تتطلب منك أنظمة الملاحة التي تعتمد على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) تكوين خريطة جغرافية معقدة. إن القدرات المكانية للأشخاص الذين يستخدمون نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) لفترة طويلة جداً، يظهرون ضعفاً في قدرات الذاكرة المكانية التي تتطلب الحُصين؛ حيث تعد قراءة الخرائط أمراً صعباً. لكن الأشياء الصعبة مفيدة، لأنها تنطوي على عمليات معرفية وهياكل دماغية لها تأثيرات أخرى على الوظائف المعرفية العامة.

ليس لدى هاردت بيانات حتى الآن، لكنه يعتقد أن "تكلفة ذلك قد تكون زيادة هائلة في حالات الخرف. كلما قل استخدامك لعقلك، قل استخدامك للأنظمة المسؤولة عن الأشياء المعقدة مثل الذكريات العرضية، أو المرونة المعرفية، وزاد احتمال الإصابة بالخرف. هناك دراسات تُظهر، على سبيل المثال، أنه من الصعب حقاً أن تصاب بالخرف عندما تكون أستاذاً جامعياً، والسبب ليس أن هؤلاء الأشخاص أكثر ذكاء – بل إنه حتى في الشيخوخة، ينخرطون بشكل اعتيادي في مهام تعتمد على التفكير.

بينما من الواضح أن الهواتف الذكية تفتح آفاقاً جديدة كاملة من المعرفة، فإنها يمكن أن تجرنا بعيداً عن اللحظة الحالية، كما لو قضيت يوماً جميلاً، بدون أن تشعر به لأنك منهمك بمحادثة عبر الواتس أب WhatsApp. عندما لا نحضر تجربة ما، فمن غير المرجح أن نتذكرها بشكل صحيح، وسينعكس ذلك في قدرتنا على اجتراح أفكار جديدة أو القدرة على الإبداع. تقول عالمة الأعصاب والباحثة الشهيرة في مجال الذاكرة ويندي سوزوكي: "إذا لم نتمكن من تذكر ما فعلناه، والمعلومات التي تعلمناها وأحداث حياتنا، فإنها تغيرنا. إن الجزء الذي يتذكر من الدماغ يحدد حقاً تاريخنا الشخصي. إنه يحدد من نحن".

توافق كاثرين برايس، الكاتبة العلمية ومؤلفة كتاب كيف تنفصل عن هاتفك المحمول How to Break Up With Your Phone، على هذا الرأي. تقول: "ما نوليه اهتماماً في الوقت الحالي يضيف إلى حياتنا. لا تستطيع أدمغتنا القيام بمهام متعددة. نعتقد أننا نستطيع. ولكن ذلك غير صحيح. فإذا كنت تهتم بهاتفك، فأنت لا تهتم بأي شيء آخر. وأنت ستتذكر فقط الأشياء التي تهتم بها. إذا كنت لا تولي اهتماماً، فلن يكون لديك ذكرى لتتذكرها حرفياً".

تشعر برايس بقلق أكبر بشأن الإلهاء الذي تتسببه لنا هواتفنا باستمرار – تقول: "لو قضى العلماء والمخترعون أوقاتهم على تويتر وإنستغرام، ما كانوا سيقدمون أي من اختراعاتهم وعلومهم للبشرية". وتضيف: "لقد أصبحت مهتمة بما إذا كان الإلهاء المستمر الذي تسببه أجهزتنا يؤثر على قدراتنا وليس فقط على جمع الذكريات، ولكن نقلها إلى تخزين طويل الأجل بطريقة قد تعيق قدرتنا على التفكير العميق والمثير للاهتمام. إذ إن أحد الأشياء التي تعيق قدرة دماغنا على نقل الذكريات من التخزين قصير المدى إلى التخزين طويل المدى، هو الإلهاء. إذا تم تشتيت انتباهك عن طريق إشعار، أو بسبب الرغبة الشديدة في التقاط هاتفك "فلن تحصل في الواقع على التغييرات المادية المطلوبة لتخزين تلك الذاكرة".

من المستحيل معرفة ذلك على وجه اليقين، لأنه لم يقم أحد بقياس مستوى إبداعنا الفكري قبل انطلاق الهواتف الذكية، ولكن برايس تعتقد "أن الإفراط في استخدام الهاتف الذكي قد يضر بقدرتنا على أن نكون ذوي بصيرة. لا يمكنك الحصول على نظرة ثاقبة إذا لم يكن لديك ذكريات طويلة المدى". تم دعم نظريتها من قبل عالم الأعصاب والكيمياء الحيوية الحائز على جائزة نوبل البالغ من العمر 92 عاماً إريك كانديل الذي قال: "تصعب الإلهاءات المستمرة تشفير المعلومات في الذاكرة".

الهواتف الذكية مصممة أساساً لجذب انتباهنا. تقول برايس: "إن التطبيقات التي تجني المال، من خلال جذب انتباهنا، مصممة لمقاطعتنا. إنني أعتقد بضرورة اعتبار الإخطارات أو الإشعارات على أنها مقاطعات لأن هذا ما تفعله".

يمكن أن يؤدي استخدام الهواتف الذكية إلى تغيير الدماغ، وفقاً لدراسة ABCD الجارية والتي تتعقب أكثر من 10000 طفل أمريكي حتى مرحلة البلوغ. يقول لاري روزين، الذي يدرس وسائل التواصل الاجتماعي: "بدأ الأمر بفحص الأطفال، وكانت إحدى النتائج المبكرة الأكثر إثارة للاهتمام، هي وجود علاقة بين استخدام التكنولوجيا وترقق قشرة الدماغ"؛ حيث يعتبر ترقق قشرة الدماغ جزءاً طبيعياً من النمو ثم الشيخوخة، وفي وقت لاحق من الحياة يمكن أن يرتبط بالأمراض التنكسية مثل مرض باركنسون والزهايمر، وكذلك الصداع النصفي.

من الواضح أن جنّي الهاتف الذكي خرج من الزجاجة مبتعداً متجاوزاً التلال. فنحن نحتاج إلى هواتفنا الذكية للوصول إلى المكاتب وحضور الأحداث ودفع تكاليف السفر والعمل كتذاكر وبطاقات ائتمان وكذلك لرسائل البريد الإلكتروني والمكالمات والرسائل. من الصعب جداً ألا يكون لديك هاتف ذكي. إذا كنا قلقين بشأن ما قد تفعله هذه الهواتف - أو التطبيقات الموجودة عليها - فماذا يجب أن نفعل بخصوص ذاكرتنا؟

وختاماً: إذا كنت تعتقد أن ذاكرتك وتركيزك قد تراجعا وتلقي باللوم على أشياء مثل عمرك أو وظيفتك أو أطفالك، فقد يكون ذلك صحيحاً، ولكن من المحتمل أيضاً أن يكون هاتفك الذكي هو السبب.

----

ترجمة عن موقع صحيفة الغارديان البريطانية