كلما درس العلماء الدماغ البشري أكثر، فاجأهم بألغاز وأسرار جديدة بانتظار الكشف عنها! في دراسة اليوم سوف نعرف كيف توصل العلماء إلى حل لغز آخر من ألغاز هذا المحيط البشري الغامض. كيف يكبح الدماغ الرغبة في التصرف؟

إن قمع الرغبة في العمل إلى أن يصبح الوقت مناسباً، هو جانب حاسم من السلوك البشري، وغالباً ما يتم تجاهله. فكر فقط فيما قد يحدث إذا ضغطت على دواسة البنزين قبل أن تتحول إشارة المرور إلى اللون الأخضر. كيف يضبط الدماغ الرغبة في التصرف ويكبحها إلى أن يحين التوقيت الصحيح؟

إنه السباق الأخير. يصطف ثمانية من العدائين على المضمار، وأقدامهم تستعد بقوة عند حواجز البداية. يسمعون العد ويقول الحكم: على علاماتك... استعد! وبعد ذلك بجزء من الثانية وقبل إطلاق مسدس البدء، يقفز عداء إلى الأمام، مستبعداً نفسه من المنافسة. في مثل هذه اللحظات يظهر بشكل مؤلم جانب من السلوك يتم تجاهله بشكل شائع - قمع الفعل.

كشفت دراسة نُشرت في 6 يوليو 2022 في مجلة Nature، كيف يمنعنا الدماغ من القفز قبل سماع إشارة البداية.

قال كبير مؤلفي الدراسة جو باتون: اكتشفنا منطقة في الدماغ مسؤولة عن قيادة الحركة وأخرى عن قمع هذا الدافع. باتون هو مدير برنامج "شامباليمود" العصبي في البرتغال. وأضاف: يمكننا أيضاً إطلاق السلوك الاندفاعي من خلال التلاعب بالخلايا العصبية في هذه المناطق.

اكتشف علماء من مختبر التعلم التابع لمركز أبحاث في البرتغال إجابة لكيفية قمع الرغبة في التصرف حتى يحين الوقت المناسب - مفتاح الاندفاع في الدماغ. قدم الفريق منطقة دماغية مسؤولة عن قيادة الحركة وأخرى لقمع هذا الدافع. يصفون أيضاً كيف أن التلاعب بالخلايا العصبية في هذه المناطق يمكن أن يؤدي إلى سلوك اندفاعي.

حل اللغز

شرع فريق باتون في حل لغز نشأ جزئياً عن مرض هنتنغتون وباركنسون. تتجلى هذه الحالات في صورة اضطرابات حركية مع أعراض معاكسة إلى حد كبير. يعاني مرضى باركنسون من بدء العمل، بينما يعاني مرضى هنتنغتون من حركة لاإرادية وغير منضبطة. والمثير للدهشة أن كلا الحالتين تنجمان عن خلل وظيفي في نفس منطقة الدماغ: العقد القاعدية. كيف يمكن أن تدعم البنية العصبية نفسها وظائف متناقضة؟

وفقاً لباتون، ظهر دليل قيم من الدراسات السابقة، التي وجدت دائرتين رئيسيتين في العقد القاعدية: المساران المباشر وغير المباشر. يُعتقد أنه في حين أن نشاط المسار المباشر يعزز الحركة، فإن المسار غير المباشر يقمعها. ومع ذلك فإن الطريقة الدقيقة التي يتم بها تنفيذ هذا التفاعل كانت غير معروفة إلى حد كبير.

توقيت وانعطاف

اتخذ باتون نهجاً فريداً لحل المشكلة. في حين أن الدراسات السابقة فحصت العقد القاعدية أثناء الحركة، ركز فريق باتون على قمع العمل النشط بدلاً من ذلك. صمم الفريق مهمة حيث كان على الفئران تحديد ما إذا كانت الفترة الفاصلة بين نغمتين أطول أو أقصر من 1.5 ثانية. إذا كانت أقصر، فسيتم تقديم مكافأة على الجانب الأيسر من الصندوق، وإذا كانت أطول، فستكون المكافأة الأكبر متاحة على اليمين.

قال برونو كروز، طالب الدكتوراه في المختبر: كان المفتاح لتحقيق التجربة، هو أن على الفأر أن يظل ثابتاً تماماً في الفترة بين النغمتين. لذلك حتى لو كان الحيوان متأكداً من تجاوز علامة 1.5 ثانية، فإنه يحتاج إلى قمع الرغبة في التحرك إلى حين سماع النغمة الثانية، وعندها فقط ينتقل للحصول على المكافأة.

تبديل الاندفاع

تتبع الباحثون النشاط العصبي لكلا المسارين أثناء قيام الفأر بالمهمة. كما في الدراسات السابقة، كانت مستويات النشاط متشابهة عندما كان الفأر يتحرك. ومع ذلك تغيرت الأمور خلال فترة قمع العمل. قال كروز: على عكس التنشيط الذي لاحظناه نحن وآخرون أثناء الحركة، كانت أنماط النشاط عبر المسارين مختلفة بشكل لافت للنظر ومثير للاهتمام خلال فترة قمع الحركة. كان نشاط المسار غير المباشر أعلى بشكل عام، وزاد بشكل مستمر أثناء انتظار الفأر للنغمة الثانية.

وفقاً للمؤلفين، تشير هذه الملاحظة إلى أن المسار غير المباشر يدعم بمرونة الأهداف السلوكية للحيوان. مع مرور الوقت يصبح الفأر أكثر ثقة بأنه في فترة تجربة "طويلة". وبالتالي فإن كبح رغبته في التحرك يزداد صعوبة بشكل متزايد. وأوضح كروز أن هذه الزيادة المستمرة في النشاط تعكس على الأرجح هذا الصراع الداخلي.

وبوحي من هذه الفكرة، اختبر كروز تأثير تثبيط المسار غير المباشر. تسبب هذا التلاعب في أن الفئران تتصرف بشكل اندفاعي في كثير من الأحيان، ما أدى إلى زيادة كبيرة في عدد التجارب؛ حيث اندفعت إلى منفذ المكافأة قبل الأوان. من خلال هذا النهج المبتكر، كشف الفريق بشكل فعال عن "مفتاح الاندفاع".

قال باتون: هذا الاكتشاف له آثار واسعة النطاق. بالإضافة إلى الملاءمة الواضحة لمرض باركنسون وهنتنغتون، فإنه يوفر أيضاً فرصة فريدة للتحقيق في ظروف التحكم في الانفعالات، مثل الإدمان واضطراب الوسواس القهري.

البحث عن الدافع للعمل

حدد الفريق منطقة في الدماغ تعمل بنشاط على قمع الدافع إلى التصرف، ولكن من أين ينشأ هذا الدافع؟ نظراً لأنه يُعتقد أن المسار المباشر يعزز العمل، كان المشتبه به الرئيسي هو المسار المباشر لنفس المنطقة. ومع ذلك، لم يتأثر سلوك الفأر عملياً عندما منعه الباحثون.

يتذكر باتون: كنا نعلم أن الفئران كانت تواجه دافعاً قوياً للعمل لأن إزالة الكبت عززت سلوكاً يشبه الاندفاع. ولكن لم يتضح على الفور أين يمكن أن يكون موقع الترويج للعمل. للإجابة على هذا السؤال، قررنا أن ننتقل إلى النمذجة الحسابية.

أضاف غونزالو غيومار، طالب الدكتوراه في المختبر: النماذج الرياضية مفيدة للغاية في فهم الأنظمة المعقدة، مثل هذا النظام، لقد أخذنا المعرفة المتراكمة حول العقد القاعدية، وقمنا بصياغتها رياضياً، واختبرنا كيفية معالجة النظام للمعلومات. ثم قمنا بدمج توقع الأنموذج مع أدلة من دراسات سابقة وحددنا مرشحاً جديداً واعداً: المخطط الظهري.

كانت فرضية الفريق صحيحة. كان تثبيط الخلايا العصبية للمسار المباشر في هذه المنطقة الجديدة كافياً لتغيير سلوك الفأر. تقع كلتا المنطقتين اللتين سجلناهما في جزء من العقد القاعدية يسمى المخطط. وأوضح غيومار أن المجال الأول مسؤول عما يسمى بالوظائف الحسية الحركية "منخفضة المستوى" والثاني مخصص لوظائف "المستويات العليا" مثل صنع القرار.

من الإغراء إلى العمل

يجادل المؤلفون بأن النتائج التي توصلوا إليها تتعارض مع التصور العام لكيفية عمل العقد القاعدية، وهي أكثر مركزية، وأن أنموذجهم يقدم منظوراً جديداً لكيفية عمل العقد القاعدية. قال باتون: تشير دراستنا إلى أن هناك دوائر عصبية متعددة محتملة في الدماغ تتنافس باستمرار على الإجراء الذي يجب تنفيذه بعد ذلك. هذه الرؤية مهمة لفهم كيفية عمل هذا النظام بشكل أعمق، وهو أمر ضروري لعلاج بعض اضطرابات الحركة، لكنه يذهب إلى أبعد من ذلك. نعلم أن الملاحظات التي يقدمها علم الأعصاب هي جوهر العديد من تقنيات التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي. وبالتالي فإن فكرة أن اتخاذ القرار، قد تكون مفيدة في تصميم أنواع جديدة من الأنظمة الذكية.

أخيراً يقترح باتون أنه ربما يكون أحد الجوانب الفريدة للدراسة هو قدرتها على الوصول إلى الخبرات المعرفية الداخلية. "الاندفاع والإغراء" هذه العمليات الداخلية هي بعض من أكثر الأشياء الرائعة التي يقوم بها الدماغ، لأنها تعكس حياتنا الداخلية. لكنها أيضاً الأصعب في الدراسة، لأنها لا تحتوي على الكثير من العلامات الخارجية التي يمكننا قياسها. كان إنشاء هذه الطريقة الجديدة أمراً صعباً، ولكن لدينا الآن أداة قوية للتحقيق في الآليات الداخلية، مثل تلك التي تشارك في مقاومة الإغراء أو الاستسلام له.

----

بقلم: جو باتون

ترجمة عن موقع: Sci Tech Daily