يعدّ الطب الشرعي الشاهد الصامت على مسرح الجريمة، باعتباره من أهم العلوم الجنائية التي تبحث عن الحقيقة ضمن العملية القانونية. ففي بداية القرن الماضي، كانت بعض القضايا الجنائية تقيد ضد مجهول لصعوبة الكشف عن الحقائق، إلا أنه بظهور تخصص الطب الشرعي والأبحاث العلمية والتقنية المرتبطة به، أصبح بالإمكان اكتشاف الدليل المادي في أغلب القضايا وخاصة الجنائية.

بالعودة إلى تاريخ هذا العلم، نجد أن العرب كان لهم الفضل في وضع اللبنة الأولى لمادة الطب الشرعي كمفهوم طبي منذ القديم، وذلك عندما اعتمد ابن سينا المقارنات العلمية لعلاج الأمراض وكشف السلوكيات المتعلقة بها، وكذلك الدراسات التي أجريت حول الجنون وكيفية معالجتها عند العالم إسحاق بن الجزار القيرواني. إلا أنه ابتداء من القرن الثامن عشر، أخذت تسمية الطب الشرعي تُردد في المحيط الطبي، بعد أن قامت العديد من الأبحاث والدراسات حول علم السموم وفحص الجروح وأسبابها وكيفية معاينة الجرائم والموت المشكوك.

حلقة وصل

القاضي سامر جمعة محامي عام ريف دمشق، يبين أن علاقة الطب الشرعي مع القضاء هي علاقة تكاملية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالكشف عن الوفيات أو الأذيات؛ حيث يحتاج القضاء إلى خبرة الأطباء الشرعيين المهنيين. وبالتالي هو حلقة وصل بين الطب والقانون، ويهتم بدراسة العلاقة القريبة أو البعيدة التي يمكن أن توجد ما بين الوقائع الطبية والنصوص القانونية، كما يعتبر من أحد أهم المواضيع والتخصصات الطبية المميزة، ولأجل هذه الأهمية جاءت الدراسات التي تبين الدور الذي يلعبه الطبيب الشرعي في البحث عن الحقيقة وتسخيرها لخدمة العدالة وكشف الستار عن المجرمين الفعليين وأسباب وطريقة ارتكاب الجرائم.

القاضي سامر جمعة

يقول المحامي العام: إنه العلم الذي يُسخر المعارف الطبية لفائدة الإجراءات القانونية، ليكون أحد الفروع العلمية المشتركة بين الطبيب ورجل القانون، خصوصاً القاضي الذي قد تُعرض عليه قضايا يستحيل عليه البت فيها بعيداً عن الطبيب الشرعي. فهناك جوانب مهمة تتعلق بتطور هذا العلم، ليكون قادراً على مواكبة الأمور التي تواجه الناس وتحتاج إلى خبرات دقيقة جداً قد يصعب الوصول فيها إلى حل نهائي. لذلك لا بد من أدوات ومخابر وتجهيزات تطور عمل الطبيب الشرعي في مواكبته للعمل القضائي. وأشار المحامي العام إلى وجود مراكز طب شرعي نظامية في سورية ومتطورة، ولكن هناك قلة بعدد الأطباء الشرعيين، وهذا ما ظهر خلال السنوات العشر الأخيرة، على الرغم من ضرورتها أكثر من أي وقت مضى. ففي عملية الكشف عن الجرائم تكون الخطوة الأولى من العمل على عاتق الطبيب الشرعي.

وأكد جمعة أنه لا ينقصنا شيء للتطور في عمل الطب الشرعي، ولكن هناك حاجة إلى دورات وأدوات تساعد الأطباء للحصول على دقة عالية وخاصة فيما يتعلق بالبصمة الوراثية.

طب العدالة

تحدث الدكتور زاهر حجو، مدير الهيئة العامة للطب الشرعي في سورية، عن عدة مسميات ومترادفات للطب الشرعي إذ يقال عنه الطب الجنائي، وطب المحاكم، والكثيرون يصفونه بطب الموت. إلا أن هذا الكلام غير صحيح وخاصة إذا عدنا إلى إحصائية عمل الطب الشرعي في سورية قبل الحرب؛ حيث كان عمله مرتبطة مع الأحياء بنسبة 92% بينما خدماته في مجال الوفيات لا تتجاوز الـ 8% فقط. وهناك نوع آخر للطب الشرعي ألا وهو الطب الشرعي القضائي، الذي يهتم بالعلاقة ما بين الطب الشرعي والقضاء. تتفرع منه عدة فروع بعضها يهتم بدارسة الجاني وبعضها خاص بالصدمات والكدمات والرضوض. وهناك فرع خاص بعمليات التشريح الذي يهتم بدارسة الجثث وعلامات الموت، بينما يتولى الطب الشرعي الجنائي دارسة وتشخيص الآثار التي يتركها الجاني في مسرح الجريمة.

وأشار حجو إلى وجود الطب الشرعي العقلي الذي يهتم بدراسة الجاني، ويبين مدى أهليته لأن يكون محلاً للمساءلة الجزائية، ومدى تأثير الحالة العقلية للمجرم على الركن المعنوي للجريمة، إضافة إلى طب الأسنان الشرعي الذي يهتم بدراسة الأسنان واستغلالها للتعرف على الجثث وكشف هوية المجني عليه. وعليه فإن الطب الشرعي يعمل على مساعدة القضاء من أجل تحقيق العدالة؛ وذلك في شخص الطبيب الشرعي، الذي يعمل جاهداً بخبراته ومكتسباته العلمية.

عوامل الجذب

على الرغم من أهمية هذا الاختصاص والأبحاث المتعلقة به، إلا أن هناك مشكلات عديدة يتم العمل على حلها لتطوير عمل وواقع الطب الشرعي في سورية بحسب ما تحدث عنه مدير الهيئة العامة للطب الشرعي، مشيراً إلى إعادة العمل في العديد من مراكز الطب الشرعي وتطوير البعض منها لتصبح مراكز ضخمة وخاصة مركز الاستعراف الذي سينطلق العمل فيه للكشف عن الجثث مجهولة الهوية في محافظة حلب، والذي يضاهي أكبر مركز في الشرق الأوسط للطب الشرعي، فيه عشرات غرف التبريد والتشريح. وهناك مراكز جديدة في مدينتي حمص والقنيطرة سيتم افتتاحها خلال هذا العام. كما تم ترميم عدد كبير من المراكز والمشارح للطب الشرعي سينطلق العمل بها في العام القادم أي في نهاية عام 2023 بحيث تصبح معظم مراكز المحافظات مؤهلة. إضافة إلى دليل الطب الشرعي الجديد والعصري الذي تم إصداره مؤخراً ليوحد العمل على مستوى سورية.

ويوضح حجو أن المشكلة الأكبر المتعلقة بالطب الشرعي في سورية، تتعلق بنقص الكادر البشري. فالموجود حالياً هو 54 أخصائياً في الطب الشرعي فقط. وهذا يعود لعدم الرغبة في دخول هذا الاختصاص نظراً للأجور القليلة التي يتقاضها الطبيب الشرعي وعدم قدرته على فتح عيادة خاصة به، فهو أكثر طبيب مظلوم من حيث الدخل الذي ينحصر بالراتب الحكومي. ومن هنا جاءت أفكار الجذب لهذه الاختصاصات والتحفيز للدخول إليه من خلال تعديل الأجور بشكل قانوني ومنطقي بما يضمن له مورداً معيشياً كريماً، ومن خلال إيجاد حماية قانونية تشريعية للطبيب الشرعي أثناء عمله والحفاظ على حقوقه بألا يتعرض للمشاكل.

حلول إسعافية

الأفكار والمقترحات التي تحدث عنها مدير الهيئة هي حلول تحتاج إلى دعم من المحامين والقضاة لكي تكون الخطوات جريئة وجاذبة لطلبة الدراسات العليا للتسجيل في اختصاص الطب الشرعي. وأكد على ضرورة معالجة هذا الموضوع خلال فترة وجيزة لأنه في حال تم التسجيل في هذا الاختصاص عام 2022 فإنه يحتاج إلى أربع سنوات أي لعام 2026 لكي يحصل على شهادة طبيب شرعي ويمارس المهنة، وخلال هذه الفترة يكون قد تقاعد أكثر من 50% من الأطباء الشرعيين المتواجدين حالياً.

وعليه يبين الدكتور زاهر حجو أن الهيئة قد أصدرت عدة دساتير وأدلة عمل للطب الشرعي، منها دليل حول العجز والشفاء، ودليل حول النسب التي تعطى في حالات الإصابات المتنوعة سواء في التعطيل عن العمل. وجمعيها تقلل من هامش الخطأ عند الطبيب. وهناك أدلة مختلفة تتعلق بالاستعراف. كما أن العمل مستمر لتطوير واقع الطب الشرعي في سورية، وسيكون لدينا في العام القادم مركز للاستعراف متكامل في محافظة حلب.

ويختم أصحاب الاختصاص هذه الجدلية بالقول إن مسمى هذا العلم يتكون من شقين هما (طب وشرعي)، فالطب مبحثه ومجاله هو كل ما يتعلق بصحة الإنسان وجسمه حياً أو ميتاً، أما الشرعي فمجاله الفصل بين المتنازعين وإثبات الحقوق بهدف الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة من خلالها.