تختلف الحكايات والقصص المتعلقة بتزويج الفتيات وهن في سن مبكرة، فهي ليست قضية عابرة أو أنها ناتجة عن العادات والتقاليد فقط، فبعضها يعود إلى العنف الأسري أو الهروب من الوضع الاقتصادي المتردي والفقر والخوف من العنوسة، وكذلك النزوح والمشكلات الناتجة عن الحرب. إضافة إلى الأسباب المتعلقة بالثقافة المجتمعية. لنصل في النتيجة إلى وجع اقتصادي ونفسي يخلق معه الكثير من الآفات المجتمعية والصحية.

لا شك أن ظاهرة تزويج الفتيات في عمر الـ 13 والـ14 عاماً منتشرة منذ القدم في العديد من المناطق السورية، إلا أنها تفاقمت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة وخاصة بين الأقارب؛ حيث لا يُعطى للفتاة حيز للتفكير أو اختيار شريك حياتها، الأمر الذي ساهم في الابتعاد عن التعليم وغياب التوعية والواقع المعيشي السيئ للأسرة. فغالبية النتائج لا تصب في مصلحتهن. هناك خسارة على المستوى الفردي للفتاة التي أصبحت أماً وهي طفلة، وعلى الأطفال الذين يعيشون ضمن ظروف أسرية غير ناضجة.

وعليه تتركز الأبحاث والدراسات على تخفيض نسبة حدوث الزواج المبكر كأحد أهم الالتزامات الوطنية التي وقعت عليها الحكومة السورية في مؤتمر نيروبي الدولي للسكان الذي عقد في عام 2019.

الدكتور ياسر كلزي

وتعتبر الهيئة السورية لشؤون الأسرة أحد الجهات التي تتبنى هذه الدراسات بشكل مباشر، بالتعاون مع شركاء وطنيين مثل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل والعدل والصحة، ومع منظمات أممية داعمة للقضايا السكانية والتنمية المستدامة. وتبين رئيسة الهيئة المهندسة سمر السباعي في تصريح للصحفيين عن أهمية تسليط الضوء على الدراسات المتعلقة بهذه الالتزامات والعمل على تحقيقها ورصد النتائج على أرض الواقع وتطوير القوانين المتعلقة بها، ومن ضمنها موضوع تخفيض نسبة زواج الصغيرات ومعالجة هذه الظاهرة.

بكثير من الوضوح والشفافية عملت الهيئة السورية لشؤون الأسرة على المحددات المجتمعية المولدة لظاهرة زواج الصغيرات، ونفضت الكثير من الغبار عن سلبيات هذه الظاهرة من خلال دراسة ميدانية أنجزتها بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان عام 2018 وعن مدى انعكاسها على الثقافة المجتمعية وأنماط السلوك الديموغرافي للسكان، ونتج عن هذه الدراسة التي شملت 230 حالة نمطية لعينة مختارة من فتيات تزوجن قبل إتمامهن سن الثامنة عشرة.

زواج القاصر

أظهرت الدراسة أن هناك أسباباً تتعلق بمخاوف الأهل من تأخر بناتهن على الزواج، فقدان المعيل، الإغراءات المادية، الخوف من جنوح الفتيات في هذا العمر، وحالات التفكك الأسري والنزوح، إضافة إلى الموروث المتعلق بأن مستقبل البنت في بيت زوجها. وبعض التيارات الدينية التي تشجع الزواج المبكر.

وتبين الدراسة في تقرير خاص يعود لعام 2019 الآثار المجحفة للزواج المبكر على الفتيات في مرحلة المراهقة، ومن أهمها الحرمان من التعليم والصحة الناتجة عن مضاعفات الحمل والولادة والتربية وارتفاع حالات الطلاق، إضافة إلى قصص أخرى تتعلق بتثبيت الزواج وما يلحق ذلك من عواقب سلبية على الأطفال وحرمانهم من التسجيل النظامي والإرث والتعلم والعمل.

وبحسب بعض التصاريح لمسؤولين عن برنامج مناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي حول هذه الدراسة، نجد أن نسبة الزواج لمن هن تحت عمر الـ 18 عاماً ارتفعت في سورية من 13 إلى 46% خلال فترة الحرب، على الرغم من أن هذه الظاهرة كانت منخفضة قبل عام 2010. وعليه يسجل التقرير تصاعداً ملحوظاً في حالات الزواج المبكر خلال السنوات الأخيرة، وخاصة في ريف حلب وبعض أرياف حماه ودمشق وإدلب.

حقائق صحية

يشكل الفقر والاحتياج المادي والرغبة في الحصول على مهر من أجل إعالة باقي الأسرة والموروثات الاجتماعية، جزءاً مهماً من الأسباب الظاهرة للزواج المبكر، إلا أن التبعات والآثار الصحية السلبية تعكس الخسارة الكبيرة لجميع الأطراف. يبين الدكتور رفائيل عطا الله رئيس المجلس العلمي لاختصاص التوليد وأمراض النساء في سورية، أن تزويج الفتاة في عمر صغير ينتج عنه الحمل المبكر، في الوقت الذي تكون فيه الفتاة غير مستعدة جسدياً أو نفسياً للحمل والولادة، ما يجعلها أكثر عرضة للاختلاط والعواقب الصحية. وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن هناك 16 مليون مراهقة بين عمري 15 و19 تحمل سنوياً، وهناك 2.5 مليون مراهقة تحت عمر 15 سنة تصاب باختلاط الحمل والولادة، والتي تعتبر الأكثر شيوعاً بين وفيات الإناث في هذا العمر.

ويشير عطا الله إلى أن الأم المراهقة معرضة للإسقاط وفقر الدم ومشاكل النمو نتيجة سوء التغذية والأمراض المنتقلة بالجنس. إضافة إلى حدوث تشوهات خلقية في الجهاز العصبي وتشوهات هضمية والتشوهات العظمية العضلية الناتجة عن الحمل المبكر أو الإجهاض المتكرر والنزف. وبسبب تعثر الولادة يكون هناك ارتفاع نسبة الوفيات للأمهات والأطفال، هذا عدا ما يتعرض له المولود من قصور في الجهاز التنفسي وزيادة نسب الإصابة بالشلل الدماغي نتيجة الولادة المبكرة.

تحرم الفتاة من العيش مرحلة الطفولة وتحمل المسؤولية في سن صغيرة مع عدم اكتمال النضج الذهني، وبالتالي عدم القدرة على تربية الأبناء بشكل جيد. وفي الكثير من الحالات تصاب الفتيات بأمراض نفسية مثل الفصام والاكتئاب والقلق.

الأثر القانوني

جميع ما تقدم وما وصلت إليه الدراسات في موضوع تزويج الفتيات الصغيرات، هو شكل من أشكال الاتجار بهن وينتهك طفولتهن بما يتبعه من مخاطر نفسية وجسدية ونزاعات قضائية تتعلق بمشاكل الطلاق أو الزواج خارج النطاق القانوني وقضايا إثبات النسب واكتساب الجنسية، وزيادة أعداد الأطفال فاقدي الهوية.

يشير الدكتور ياسر كلزي، عضو اللجنة الوطنية لحقوق الطفل وخبير في حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، إلى أن القوانين السورية تمنع زواج الأطفال دون سن الثامنة عشرة، أنثى كانت أم ذكراً، فقد تضمن التعديل الأخير لقانون الأحوال الشخصية الصادر بالقانون 4 لعام 2019، تحديداً واضحاً لسن الزواج في المادة (16) بأن تكمل أهلية الزواج في الفتى والفتاة ببلوغ الثامنة عشرة من العمر، وهو ذاته نص المادة (19) من قانون حقوق الطفل رقم (21) لعام 2021، وفي ذلك تأكيد على رغبة المشرع السوري في وضع حد للزواج المبكر. وفي إجراء آخر لمحاربة هذه الظاهرة، كان قد صدر القانون رقم 24 لعام 2018 المعدل لبعض مواد قانون العقوبات السوري وهي (469-472)، إذ فرض المشرع عقوبات على إبرام عقود الزواج خارج المحكمة المختصة، سواء تم عقد الزواج بموافقة الولي، أو من له ولاية على القاصر، كما عاقب المتعاقدين وممثليهم وشاهدي العقد الذين حضروا الزواج، وذلك منعاً للتحايل على السن الذي حدده المشرع لأهلية الزواج. وكان لذلك أثر إيجابي في الحد من تزويج الفتيات الصغيرات.

ولفت كلزي إلى أن قانون حقوق الطفل رقم 21 الذي صدر عام 2020 أكد مصلحة الطفل الفضلى واتخاذ أصلح الحلول بهدف حماية الطفل وبقائه ونموه وتربيته وتعليمه ورعايته، بما يحقق الأنسب على المستوى البدني والنفسي والاجتماعي والاقتصادي. ولا شك بأن الزواج المبكر ينتهك كل هذه الحقوق، كما أكدت المادة 14 من القانون أن للطفل الحق في الحماية من أشكال العنف كافة، وخاصة الإساءة البدنية، أو المعنوية، أو الجنسية أو الأخلاقية، وغير ذلك من أشكال الإساءة في المعاملة، وله الحق في الحماية من الاستغلال، والإهمال، والتقصير. ويعد زواج الصغيرات أشد أفعال العنف ضد الأطفال وبخاصة الفتيات.

شهدت هذه الدراسات اهتماماً مميزاً من قبل الجهات الحكومة السورية والجهات المعنية والمدنية والمنظمات العاملة على الأراضي السورية، وقُدمت العديد من المقترحات التي ساهمت في الانتباه إلى المشكلة ونشر الوعي وتعديل القوانين، فلا يجوز تزويج من لم تبلغ سن الثامنة عشرة، وعليه وضعت طرقاً للحماية والحد من الزواج المبكر للفتيات وأساليب التوعية الجديدة والتنويه للإبلاغ عن الحالات وصولاً إلى تشبيك واستراتيجية وطنية تحد من الظاهرة.