منذ ما يقرب من سبعة عشر عاماً والباحث رامي جرجور، الدكتور في هيئة الطاقة الذرية، يقوم بأبحاث متعاقبة تخص الجانب الطبي والعلمي لحمى البحر المتوسط، أي منذ عام 2005 وحتى الآن. وقد وصل عدد الأبحاث التي عمل عليها إلى ما يقارب الـ 15 بحثاً، قسم كبير منها منشور في مجلات عالمية.

ركز الدكتور رامي جرجور في هذه الأبحاث على طفرات حمى البحر المتوسط لدى الأشخاص العاديين الذين ليس لديهم أعراض ومدى الانتشار، ليبين لنا من خلال أبحاثه أن سورية هي من الدول التي تشكل الرقم الأول في العالم لوجود هذا المرض فيها، وأن هناك شخصاً واحداً في العالم يكون مصاباً بحمى البحر المتوسط بين كل 3 أشخاص عاديين حاملين لطفرة من طفراته.

الحمى العائلية

بحسب الدكتور جرجور فإن حمى البحر الأبيض المتوسط العائلية familial Mediterranean fever هي اضطراب وراثي ينطوي على نوباتٍ من الحمَّى الشديدة مع ألم في البطن، أو في حالاتٍ أقل شيوعاً، مع ألم في الصدر أو ألم في المَفصل أو طفح جلديّ. وهي تنجُم عن جين ينتقل بالوراثة من الوالدينِ معاً. حيث يستنِدُ التَّشخيص إلى الأعراض غالباً، ولكن يتوفَّر فحص جينيّ. ويُعطى المرضى دواء كولشيسين Colchicine للتقليل أو القضاء على عدد من النوباتِ المؤلمة والتخلص من خطر الفشل الكلويّ بسبب الداء النشوانيّ الذي يرافق هذا النوع من الحمى. وتابع الدكتور أن حمى البحر المتوسط العائلية هي المتلازمة الدورية الوراثية الأكثر شُيوعاً عبر جميع الفئات العمريَّة، حيث تصِلُ نسبة المرضى الذين لديهم أفراد من الأسرة، الأشقاء عادةً، يُعانون من هذا الاضطراب (تاريخ عائليّ) إلى 50%. والتي تنتج عن جين مُتنحّ recessive gene غير طبيعيَّ، ويعني هذا أنَّه حتى تحدُث إصابة بهذا الاضطراب، ينبغي أن يُوجد لدى المريض نسختان من هذا الجين غير الطبيعي عادةً، واحدة من الأب وأخرى من الأم. ولكن في حالاتٍ نادرة، قد تكُون نسخة واحدة فقط من الجين غير الطبيعي كافية للتسبُّب ببعض الأَعرَاض. ولهذا سُميت هذه الحمى بالعائلية.

حمى البحر المتوسط

الأعراض

متلازمة العائلات

تنطوي الأَعرَاض الأكثر شُيُوعاً على نوبات من آلام البطن عند حوالي 95% من المرضَى. تحدث النَّوبات بشكل غير منتظم وتكون مصحُوبة بحُمَّى شديدة تصِلُ إلى 40 درجة مئويَّة، تستمرُّ النوبات المُؤلمة عادةً لفترةٍ تتراوَح بين 24 إلى 72 ساعةً، ولكنها قد تستمرُّ لفترةٍ أطوَل، وقد تحدث هذه النَّوبات لمرَّتين في الأسبُوع، أو تحدث بشكل أقل يصل إلى مرَّة في العام. وقد تقلّ شدَّة وتكرار النَّوبات مع التقدُّم في العُمر وفي أثناء الحمل وعند الأشخاص الذين يُصابُون بالدَّاء النشوانيّ، وفي بعض الأحيان تتوقَّف النوبات تماماً لعدد من السنوات، ولكنها تعود لاحقاً.

أما الأعراض الأقل شيوعاً التي تحدث عنها الباحث، فهي تنطوي على ألم الصَّدر: حيث يُعاني حوالي 30% من المرضى من ألمٍ في الصَّدر ينتج عن التِهاب الغشاء المحيط بالرِّئتين ذات الجنب، أو في حالاتٍ نادرةٍ عن التهاب الكيس المحيط بالقلب. والتهاب المفاصل: حيث تُعاني نسبة تصلُ إلى حوالي 25% من المرضى من التهاب المفاصِل الكبيرة، مثل الركبتين والكاحلين والوركين. وهناك الطفح الجلدي الذي قد يحدث عادة قرب الكاحلين، وألم كيس الصفن بالنسبة إلى الذكور. ولكن ورغم تلك الأعراض إلا أن المريض يتعافى بسرعة ويبقى في وضع طبيعي إلى أن تحدث النوبة التالية.

المنشأ والخطورة

يقول الدكتور رامي جرجور إن أبحاثه تركزت على المرضى المصابين وطبيعة الأعراض المنتشرة لديهم وكيف تظهر ومتى تصل إلى مرحلة الشدة، لكون هذا الأمر يهم الجانبين المرضى والأطباء للوصول إلى العلاج الصحيح، وخاصة بعد اكتشاف أنه لكل طفرة هناك نسبة دواء معينة يجب إعطاؤها للمريض أكثر من بعض الطفرات الأخرى. فعلى سبيل المثال هناك طفرة تسمى 24 دي تكون أعراضها شديدة، وبالتالي يجب أن يكون العلاج في حده الأقصى. وينتج عن الإصابة بهذه الطفرة التهابات شديدة وآلام في المفاصل واختلاطات عديدة.

إن حمى البحر المتوسط هي إحدى المشاكل الكبيرة في سورية، لكونها مرضاً وراثياً يحمل أعراضاً شديدة ويكون منتشراً في العائلة الواحدة. وبالتالي من المهم على وزارة الصحة أن تتبنى هذا الموضوع من ناحية التشخيص والعلاج وتأمين الأدوية، وخاصة بعد أن أثبتت الدراسات بأن جنوب سورية هو منشأ الطفرات المتعلقة بمرض حمى البحر المتوسط منذ ألفي سنة، ومنها انتشرت إلى العالم. ومن خلال ملاحظاته البحثية، يؤكد أن هذه الحمى منتشرة لدينا في المناطق الجنوبية بكثرة وخاصة في محافظتي درعا والقنيطرة. وهي تصيب الأشخاص في كافة الأعمار. فهناك مراجعون مصابون بالحمى بعمر شهر واحد تبدأ لديهم آلام بطنيه وحرارة غير مُفسرة، وبعد القيام بالتحليل الجيني يتبين أنها حمى البحر المتوسط.

في بحثه الأخير

آخر بحث عمل عليه الدكتور رامي جرجور ركز فيه على إحدى الطفرات المشكوك بأمرها والتي تعتبر الطفرة المحيرة لأن البعض يعتبرها طفرة والبعض يرى أنها ناتجة عن تبدل طبيعي موجود لدى كل الأشخاص. ولكن بالدراسة وبعد المقارنة بين المرضى الذين لديهم هذه الطفرة وأعراضها وبين الأشخاص العاديين الحاملين إليها. وقد تبين أن هذه الطفرة تسبب الحمى، لكن الأعراض فيها تكون ألطف بكثير من أمراض أخرى، وكانت نتيجة البحث بأن المرضى الحاملين لهذه الطفرة يجب معاملتهم مثل معاملة مرضى حمى البحر المتوسط، ويجب تقديم العلاج اللازم لهم ومتابعتهم كل ستة أشهر بتحاليل دورية.

ملاحظات

تتطلب حمى البحر المتوسط العائلية معالجة وقائية مدى الحياة. ويلفت الباحث إلى أن هذا المرضى الوراثي الوحيد الذي يتوفر له العلاج بتصنيع سوري ويمكن الحصول عليه بكل سهولة. إلا أنه يجب على المرضى متابعة حالتهم الصحية بشكل دائم من خلال العلاج بالكلشوسين، ومن خلال القيام بالتحاليل الدورية حتى لا تحصل لديهم إصابات كلوية وداء نشواني. ويرى بأن أي شخص يشعر بأنه يعاني من نوبات آلام بطنية متكررة، عليه أن يقوم بالتحليل الجيني للتأكد من وجود الطفرات المسؤولة عن حدوث المرض أو عدم وجودها، لأنه في كثير من الأحيان يعتقد الناس أن هذا الألم البطني سببه تشنج الكولون، وعليه فإن التحليل الجيني هو الذي يحسم الأمر.