بينما يشكل استخدام الإنترنت حاجة أساسية ونشاطاً يومياً في الدول المتطورة لا يمكن الاستغناء عنه، ويتخطى عتبة الترفية والتواصل بغرض التسلية وإضاعة الوقت إلى آفاق وأبعاد جديدة، إلا أنه وللأسف لا تزال الصورة النمطية الراسخة في عقول كثيرين من أبناء دول العالم الثالث عن هذه التكنولوجيا واستخدامتها تدور حول الترفيه والتسلية.

ولكن ما يدعو للتفاؤل هو أن هذا الاعتقاد بدأ يتراجع تدريجياً في تلك المجتمعات التي تبحث بشكلٍ جدي عن تطوير البنية التحتية اللازمة لتأمين هذه الخدمة، حيث أصبحت متوفرة لمواطنيها بالشكل الأنسب والأرخص وبما يتناسب مع إمكانياتها. وساعد بذلك حرص الكثير من الدول المتقدمة على إيصال هذه التكنولوجيا إلى أبناء دول العالم الثالث لأسباب عديدة سياسية واقتصادية، باعتبار أنها تشكل أسواقاً استهلاكية جديدة لهذه التقانة، وفي بعض الأحيان تكون الأهداف رقابيةً وتجسسية.

أظهر تقرير نشر مؤخراً حمل عنوان "الرقمية 2022: المشهد العالمي"، أن سكان العالم قضوا في عام 2021 حوالي 12.5 تريليون ساعة على الإنترنت، كما قفز مستخدمو الإنترنت في العالم إلى 4.95 مليار في بداية عام 2022. وبلغ معدل انتشار الإنترنت الآن 62.5 في المئة من إجمالي سكان العالم. ومع هذه الأرقام الكبيرة لعدد مستخدمي الإنترنت ولعدد الساعات التي يقضونها وهم يستخدمون هذه التقنية، نجد أنفسنا في مواجهة مستمرة مع العديد من الظواهر والتطورات.

سلبيات وإيجابيات

كما هو معروف بأن التوحد يعرف بأنه "اضطراب في النمو العصبي للإنسان يؤثر بشكل شديد على تطور وظائف العقل في ثلاث مجالات أساسية: التواصل واللغة/ المهارات الاجتماعية/ القدرة على التخيل". وبعد ظهور الإنترنت وبروزها كقوة كبرى "ملغية ومغيرة ومعدلة" للكثير من العادات والسلوكيات في حياتنا كبشر، ازدادت الدراسات التي تستهدف دراسة الإنترنت وتأثيراتها، وذلك مع انتشار مجالات استخداماتها وتوسع مقدراتها وازدياد أهميتها، بغية الوقوف على أهم سلبياتها وإيجابياتها والعمل على استنباط الحلول الكفيلة بمعالجة هذه السلبيات والاستفادة العظمى من الإيجابيات. وإضافة إلى الحاجة العملية لموضوع استخدام الإنترنت، فهناك أيضاً الحاجة النفسية والراحة والطمأنينة والشعور بالتفوق على الآخرين التي توفرها هذه الوسيلة للكثير من مستخدميها، حيث إن الكثيرين من مستخدميها يشعرون براحةٍ أكبر عندما يلجون ذلك العالم الافتراضي ويتعرفون إلى أصدقاء افتراضيين يحصلون معهم على مساحة أوسع من الحرية والخصوصية من تلك التي يمتلكونها ويتمتعون بها مع أصدقائهم الموجودين في العالم الواقعي، والرغبة الكامنة في عدم مغادرة ذلك العالم الافتراضي والعودة إلى العالم الحقيقي، الذي يهربون منه، لأنهم يعتبرونه مليئاً بالمشاكل والمتاعب، بينما عالمهم الافتراضي يوفر لهم ملجأ وملاذاً، ليس فقط لراحتهم بل أيضاً من أجل تحقيق كل ما هم عاجزون على تحقيقة في عالمهم الحقيقي. وهذا يدفع الكثيرين في هذا الواقع الافتراضي إلى أن يصبحو مزدوجي الشخصية أو ربما متعددي الشخصيات، أو بشخصيات مهتزه غير واضحة المعالم. وفي بعض الأحيان قد تتطور الأمور لتتحول إلى شخصيات سايكوباتية معادية للمجتمع الذي تعيش فيه.

من المعروف بأن اضطرابات الشخصية المزدوجة والمتعددة هي من أكثر الحالات النفسية إثارة، ويطلق عليها ازدواج الشخصية، أو تعدد الشخصيات، وتعني أن يكون للشخص الواحد حالة أخرى تتغير فيها صفاته أو شخصيته ليكون إنساناً آخر يختلف في خصائصه وأسلوبه وتفكيره ومفاهيمه عن صاحب الشخصية الأصلي، ويظل كذلك لبعض الوقت ثم يعود إلى حالته الأولى. من هنا نجد أن هؤلاء قد يعانون شكلاً من أشكال اضطراب السلوك، وقد يصلون – بفضل التأثير القوي للإنترنت والتكنولوجيا على أدمغتهم وسلوكهم- إلى شكلٍ من أشكال التوحد يمكن أن نطلق عليه اصطلاحاً "التوحد التكنولوجي" الذي يؤثر على عمليات التواصل واللغة والمهارات والملكات الاجتماعية وكذلك على القدرة على التخيل، وغيرها من الأمور التي قد تسببها القوة الكبيرة التي تمتلكها الإنترنت وووسائل التكنولوجيا الحديثة، كقوى معدلة ومغيرة للسلوك الإنساني.

إدمان

وعندما تصبح الأمور خارج سيطرة الفرد فيما يخص مسألة مدة ونوعية المحتوى الذي يتابعه على الإنترنت، يمكن توصيف حالته بأنها دخلت في طور الإدمان، إذ إن البعض قد يبدأ بعيش حالةً مرضية ولا يمكنه إلزام نفسه بالتوقف عن اللعب والمقامرة والتصفح. وهنا نتعرف إلى علامات وأعراض إدمان الإنترنت وكيفية تحقيق التوازن بين الحياة الخاصة بك على الإنترنت وخارجها.

بينت دراسات أن إدمان الإنترنت يُحدث تغيرات في الدماغ شأنه شأن الكثير من أنواع الإدمان. فرغم أن الإنترنت تحسن القدرة على التعلم والكفاءة في استخدام الأجهزة كالكمبيوتر، إلا أنها تضعف الذاكرة القصيرة المدى والانتباه والقدرة على اتخاذ القرار فيبقى مدمن الإنترنت يعيش في عالمه الافتراضي الخاص وينسى واقعه.

يمكن القول إن تأثير الإدمان على الإنترنت يسبب مشكلات عديدة في قدرة التذكر لدى الفرد، حيث يصبح اتكالياً يعرف أن المعلومة موجودة في الإنترنت فلا يتكلف الدماغ أعباء حفظها واسترجاعها في وقت لاحق، بل يتملكه شعور بأنه قد قرأ أو سمع بهذا الشيء ولكنه فقط يعاني تشويشاً بشكل مؤقت وعدم قدرة على استذكار هذه المعلومة، إضافة إلى الكم الكثيف من المعلومات التي يوفرها الإنترنت وسرعة استعادتها والبحث عنها، وسهولة تخزينها.

وهنا يبرز السؤال التالي: هل يمكن أن نقول عن كل شخص يستخدم الإنترنت لساعاتٍ طويلة إنه مدمن إنترنت؟

طبعاً لا، فربما يكون مبرمجاً أو باحثاً يبحث عن معلومات معينة ويجري بحثاً في مجال ما يتطلب منه الجلوس واستخدام الإنترنت لفترة طويلة أو يعمل في أحد المجالات التي تتطلب استخدام الإنترنت والكومبيوتر لفترات طويلة كما في حال مراقبة محتوى صفحات ومواقع الإنترنت، ولكن هؤلاء الأشخاص بمجرد انتهاء بحثهم وعملهم لا يعودون لاستخدامه حتى يبدأوا عملاً جديداً، فهؤلاء الأشخاص ليسوا مدمني إنترنت.. أما في حال غابت القدرة لدى البعض بأن يستغني ويترك استخدام الإنترنت، فعندها يتحول الإنسان من مجرد مستخدم إلى مدمن حقيقي. وهنا يجب التدخل ومساعدة هذا الشخص على معالجة الحالة التي وصل إليها.

كيف يعرف الشخص أنه مدمن على الإنترنت أو أنه لا يعاني أي إدمان؟

خلصت بعض الدراسات إلى أن الأشخاص المدمنين على الإنترنت هم من يمضون أكثر من خمس أو ست ساعات يومياً ولفترة طويلة قد تمتد إلى ثلاثة أشهر بدون انقطاع. وتشير بعض الدراسات إلى أن أكثر من ثلث البريطانيين البالغة أعمارهم 15 عاماً يستخدمون الإنترنت لست ساعات أو أكثر في اليوم، ومعظم ذلك الوقت يكون مخصصاً لمواقع التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من هذا الوقت الطويل، فإنه لا يعني أن هؤلاء يعانون من مشاكل عقلية أو ذهنية. فالوقت الذي يقضيه المرء على الإنترنت مجرد عامل واحد فقط من بين عدة عوامل أخرى. وهناك أشياء أخرى لا بد من أخذها في عين الاعتبار. أما أعراضه فهي أعراض الإدمان الأخرى نفسها، أي ظهور الأعراض الانسحابية كالتوتر الشديد في حالة فقدانه مقابل السعادة عند استخدامه، يصاحب ذلك إهمال الواجبات الحياتية خاصة البيت والعمل، وتدهور أو ضعف العلاقات الاجتماعية والحياة الشخصية والصحية. ولدينا مثال لذلك: أحد مدمني لعبة إكسبوكس، وهو شاب بريطاني عمره 20 عاماً، مات بجلطةٍ دموية بعد فترة لعب استمرت 12 ساعة بحسب ما نشرته صحيفة الإندبندنت. علماً أن شركة مايكروسوفت أوقفت إنتاج جهاز (إكس بوكس 360) لألعاب الفيديو في عام 2016، بعد 10 أعوام من إطلاقه. وقال فيل سبنسر، رئيس إكس بوكس في وقتها إن مستخدمي تلك الأجهزة أكملوا أكثر من 78 مليار ساعة لعب باستخدام تلك الأجهزة، وهو رقم كبير جداً كان ليكفي لإنجاز الكثير من الأعمال فيما لو كان أحسن استخدامة من قبل هؤلاء الشباب.

وتقدر بعض الدراسات أن الإفراط في استخدام الإنترنت هو إدمان مرضي يستدعي علاجاً خاصاً؛ ذلك الأمر الذي استغله أحد المواطنين الأمريكيين حيث قام برفع دعوى قضائية ضد شركة IBM لأنه أقيل من وظيفته بطريقة غير مشروعة مخالفاً القانون الأمريكي لذوي الإعاقة بسبب زعمه أنه معاق نتيجة إدمانه الإنترنت الناجم من آثار صدمة حرب فيتنام، وهذه القضية هي قيد النظر أمام محكمة في نيويورك منذ 2007.

مدمنو الإنترنت يعانون مشكلات عاطفية مثل الاكتئاب والاضطرابات ذات الصلة بالقلق، وغالباً ما يستخدمون عالم الخيال للهروب نفسياً من مشاعر غير سارة أو من المواقف العصيبة، حسبما ذكر مركز علاج إدمان الإنترنت في أمريكا.

ووفقاً لمدير دراسات إدمان الحاسوب في مستشفى ماكلين جامعة هارفارد، فإن بين 5% و10% من متصفحي الإنترنت يعانون شكلاً من أشكال الاعتمادية (الإدمان) على الإنترنت، ويؤيده مؤلف كتاب "الإدمان الافتراضي"، ديفيد غرينفيلد، بأن حوالي 6% من الأفراد الذين يستخدمون الإنترنت يعانون من تأثير كبير في حياتهم. وتوضح تقارير أوتاوا "التقدم في العلاج النفسي" في بريطانيا أن أقلية كبيرة يعانون من إدمان الإنترنت. أما في الشرق فالنسبة تقفز إلى مستويات عالية، ففي الصين ذكرت عصبة الشبيبة الشيوعية أن أكثر من 17% من المواطنين الصينيين بين 13 و 17 سنة كانوا مدمنين على الإنترنت. وفي دراسة سانج وشانج في كوريا ظهر أن 18% من مستخدمي الإنترنت هم مدمنو ألعاب.

وقبل التخويف من خطورة الإفراط في استخدام الإنترنت، نطمئن البعض بأن نسبة كبيرة من الدراسات ترفض إدراجه كإدمان مرضي، بل تعتبره نشاطاً مفرطاً أو حالة عرضية لمرض آخر لا علاقة له بالإنترنت.. وأن الأعراض التي سجلت لدى مدمني الإنترنت قد تكون سبباً وليس نتيجة.. أي أن حالتهم المرضية أدت بهم إلى إدمان الإنترنت وليس الإدمان هو الذي أنتج هذه الأعراض!

ويقول الدكتور النفسي غولدبرغ إن اضطراب إدمان الإنترنت ليس إدماناً حقيقياً، بل عرض من أعراض اضطرابات نفسية أخرى. فالذي يطيل المكالمات الهاتفية مع الأصدقاء هل نقول إنه مدمن هاتف أم أنه يهرب من حالته السيئة بالمكالمات؟ ويؤيده كثير من الباحثين الذين يرون أنها ظاهرة عرضية لمشكلة أخرى كالإدمان على الأكل أو القمار.

بالغ الكثيرون في ولعهم وشغفهم بهذه التكنولوجيا الجديدة ووصل الأمر فيهم إلى درجة الادمان، فالإفراط في الاستخدام عموماً هو من مظاهر الاكتئاب والقلق واضطرابات السيطرة على الانفعالات. فهناك مثلاً مدمنو مقامرة الإنترنت، لكن مثل هؤلاء المقامرين كانوا مدمنين قبل الإنترنت.. الإنترنت لا علاقة له بالإدمان، ومن يدمن عليه لديه مشكلة نفسية بوجود الإنترنت أو بعدمه، فهو ليس إدماناً كيميائياً كالمخدرات والكحول والنيكوتين، وانقطاعه عن الإنترنت لن يؤدي إلى خلل وظيفي في جسمه. أما الذين يعتبرونه مرضاً، فحجتهم أن التعريف العلمي للإدمان هو حالة من الاستخدام المرضي لشيء يؤدي إلى اضطرابات في السلوك، وإدمان الإنترنت يشكل اضطراباً نفسياً وخللاً في حياة المدمن، والسلوك القهري للفرد في استخدام الإنترنت يؤدي إلى نشاط مفرط باستخدامه بطريقة مؤذية تتعارض مع حياته العادية وتسبب له الابتهاج عند الاستخدام والاكتئاب عند عدم الاستخدام.

هذا الخلاف بين الأكاديميين والمتخصصين امتد إلى المؤسسات العلمية، فالجمعية الطبية الأميركية ترفض توصية الجمعية الأمريكية للطب النفسي بأن النشاط المفرط على الإنترنت هو تشخيص مناسب أو محدد للإدمان كاضطراب نفسي مرضي. لذا لا يتم يدرج إدمان النت ضمن كتيب الأعراض الرسمية والإحصائية للاضطرابات العقلية في أمريكا. ومثل هذا الخلاف موجود حتى بين أعضاء الجمعية الأمريكية لطب الإدمان التي لم تحسم أمرها بعد.

لماذا الخلاف؟

وجد الباحث جيرالد بلوك أن ذلك يعود إلى أن التشخيص معقد، فحوالي 86% من الخاضعين لدراسته التي أظهرت أعراض الإدمان هي أيضاً أظهرت اضطرابات في حالتها العقلية. كما أظهرت دراسات أن الاستخدام القهري للإنترنت يمكن أن ينتج تغيرات شكلية في بنية الدماغ. فقد أظهرت دراسة الباحث زهو وآخرون بأن التغيرات الهيكلية في الدماغ كانت موجودة في أولئك المصنفين من قبل الباحثين كمدمني إنترنت، مشابهة للمصنفين كمدمنين كيميائياً.

وفي دراسة (يوان وآخرون) على طلاب الجامعات الصينيين الذين صنفوا كمدمني كمبيوتر، وجدت تغيرات شكلية في بنية الدماغ منها تخفيضات في أحجام من قشرة الفص الجبهي، وأجزاء من المخيخ مقارنة بالطلاب غير المدمنين. هذه التغييرات تعكس تحسينات معرفية في التعلم من نوع استخدام أجهزة الكمبيوتر بشكل أكثر كفاءة، ولكنها أيضاً أضعفت ذاكرة المدى القصير، والانتباه والسيطرة الإدراكية والقدرة على اتخاذ القرار مثل الرغبة في البقاء على الإنترنت بدلاً من التواجد في العالم الحقيقي.

سواء أكان إدمان الإنترنت مرضاً أم حالة عرضية لمرض آخر لا علاقة للإنترنت به، فهناك من المستخدمين من يشكو بأنه أصبح ضحية إدمان الإنترنت ويبحث عن علاج خاص! بالغ الكثيرون في ولعهم وشغفهم بهذه التكنولوجيا الجديدة ووصل الأمر فيهم إلى درجة الادمان. وهناك قلق عام آخر بأن المفرطين في استخدام الإنترنت صار من العسير عليهم التمييز بين عالمين: الافتراضي والواقعي، وأن حالتهم العاطفية والإدراكية تأثرت كثيراً، وأنهم باتو يعانون من أعراض التوحد الناتجة عن استخدامهم المفرط للتكنولوجيا، والمحيطون بهم باتوا يلقون باللوم الشديد على ما أصاب أبناءهم وعلى ما يعانونه بنتيجة المخاطر والأضرار التي أثرت على شخصيتهم وأفرزت مفهوم التوحد التكنولوجي الجديد.

----

المراجع

[1] www.bbc.com/arabic/scienceandtech

[2] www.albayan.ae/paths

[3] www.bbc.com/arabic

[4] www.alarabiya.net/saudi-today

[5] www.dw.com/ar