تسعى معظم الدول للمحافظة على الموروث التاريخي في مدنها القديمة وخاصة تلك المسجلة على قائمتي التراث الوطني والعالمي. ولا يعني إدخال الأنظمة الذكية في توثيقها وتصنيف أحيائها ومبانيها بالإضافة لإعداد مخططاتها التوجهية أن يؤثر ذلك على قيمتها معاييرها العالمية التي أدت إلى تسجيلها.

لكون دمشق أقدم مدينة مأهولة في التاريخ وتحظى بمكانة هامة على لائحة التراث العالمي، وقد تعاقبت عليها حقب تاريخية كثيرة، عملت الدكتورة ريدة ديب عميدة المعهد العالي للتخطيط الإقليمي بجامعة دمشق على وضع رؤى ابتكاريه عصرية لأحياء مدينة دمشق عام 2040 بالتعاون مع باحثين من خريجي هندسة العمارة. اعتمدت على دراسة وتحليل الواقع الحالي لعدد من الأحياء الدمشقية لإيجاد الحلول المناسبة للمشكلات المتعلقة بالتوزيع العشوائي للكتل البنائية والمساحات الخضراء والمفتوحة ومشكلات النقل، بهدف الوصول إلى أحياء سكنية حيوية تلبي متطلبات المجتمع والتنمية بما ينعكس إيجاباً على حياة الأفراد ومعيشتهم.

التخطيط الذكي

تبين الدكتورة ريدة أن فكرة البحث هي بمثابة المرحلة الثانية لورشة عمل سابقة تتحدث عن دمشق مدينة أحياء 15 دقيقة، خاصة بعد أن طلبت مديرة المدينة القديمة اختبار النتائج وما تم التوصل إليه في الورشة الأولى، ضمن نوع جديد من التخطيط التشاركي الحضري الذي يطلع من الحاجات الاجتماعية نحو القرار التخطيطي، فكان العمل مستمراً مع مجلس استشاري علمي بالتعاون مع خبراء أجانب للوصول إلى بعض المخرجات. وتؤكد أن تفعيل البعد التراثي في الإدارات المحلية الذكية للمدن التاريخية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصية المجتمع وهويته التي تميزه عن غيره من المجتمعات، لهذا تم استخدام التكنولوجيا الرقمية لتوظيفها في تطوير البنى التحتية وتحديث البيانات لمساعدة السكان والأنشطة الاقتصادية والثقافية على الاستدامة. وخاصة أننا في وقت نجد كل دول العالم بدأت في المرحلة الحالية تأخذ سياسات تخطيطية مشابهة.

ولفتت مديرة معهد التخطيط إلى أن الإشكالية التخطيطية بدمشق "كبيرة" في الوقت الحالي، في حين أن هذه الأحياء كانت سابقاً أفضل "اجتماعياً وبيئياً" ومساكنها متجاورة بشكل صحي، ولكن التكتلات والتراكمات العمرانية وزيادة التعقيدات الحضرية أثرت سلباً من حيث نقص المساحات الخضراء ونقص المساحات التفاعلية. وعليه فإن البحث يهدف للمحافظة على الثقافة والهوية العريقة للمدينة وتطورها مع الحفاظ على الخصوصية المكانية والثقافية للأحياء.

إيجاد الحلول

وأوضحت ديب أن البحث أخذ هذا النهج ومبادئه لاختبار إمكانية تطبيقه على أحياء دمشق والمدن السورية بهدف الارتقاء بجودة الحياة في هذه الأحياء وتحقيق كفايتها الذاتية ومحليتها ومشاركتها مع الأحياء المجاورة، وذلك بالتعاون مع جامعة دندي البريطانية. لافتة إلى وجود مخطط توجيهي للمدينة يعود لعام 2008 ومع تتبع مسار المدينة نلاحظ أنه يشكل فصلاً اجتماعياً. وأن الحالة الاجتماعية اليوم مهددة بالخروج من لائحة التراث نتيجة الحرب ونتيجة تغير السلوك الاجتماعي فيها، وهو سلوك يبدأ يتجه نحو الحضرنة أكثر، وبدأ الناس يفقدون الانتماء إليها، وتغير توظيف مساكنها باتجاه التوظيف التجاري والسياحي. وهذا موضوع مقلق بالنسبة إلى مدينة موجودة على لائحة التراث العالمي.

كانت الدراسة لرصد هذه التغيرات وإيجاد الحلول لها من حيث المحافظة على دمشق أقدم عاصمة مأهولة بمجتمعها الأصيل في العالم، مع المحافظة على النسيج الاجتماعي الذي يحمي النسيج المكاني بالاعتماد على التخطيط الذكي وتتبع التغيرات والسلوكيات للمدينة ورصدها ووضع المداخلات.

مدينة مشاة

المهندسة هند الخاير، هندسة عمارة ماجستير دراسات إقليمية متكاملة من فريق دمشق القديمة، أشارات إلى مجموعة من المشاكل في مدينة دمشق. يقوم البحث على محاولة حلها بأسلوب جديد من خلال دراسة تحليلية لكل محور من محاور المدينة سواء من الناحية البيئية أو الاقتصادية أو العمرانية. ويتم ذلك وفقاً لمجموعة من الاستراتيجيات للتخفيف من الازدحام داخل المدينة ومحاولة جعلها مدينة مخصصة للمشاة أولاً مع محاولة إصلاح الوضع البيئي سواء بالبنية التحتية أو معالجة مشكلة نهر بردى، وكذلك وضع خطة لصيانة دورية لأبنية المدينة لكي تبقى مدينة مستدامة تحافظ على مبانيها وتاريخها العريق وتبقى على لائحة التراث العالمي.

بداية الفكرة

بداية فكرة البحث بحسب المهندسة ألاء إبراهيم ماجستير في المعهد العالي للتخطيط الإقليمي، نشأت لكون دمشق أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ وهي مدينة ذات أحياء متشابكة، فكان التركيز على الجانب الاجتماعي المتعلق بالسكان بالتزامن مع الجانب الاقتصادي الخاص بطابع المدينة، وعليه تمت دراسة كل حي من الأحياء على حدة بما يحمله من خصوصية مكانية وزمانية، مع المحافظة على المسار الخاص للسكان المتواجدين فيه. وأشارت إلى مراعاة الجانب المتعلق بالزوار القادمين إلى المدينة، فكان العمل على هذه الجهات أولاً: التعامل مع السكان وتقديم خدماتهم واحتياجاتهم على أكمل وجه بوصول آمن. وثانياً: التركيز على الهدف المتعلق بجعل دمشق القديمة هي برند عالمي ومدينة سياحية ثقافية فيها سياحة دينية ومسارات دينية خاصة والمحافظة على خصوصية الأحياء والمكان من خلال النظر إلى الفرص المتوفرة.

ملء الفراغات

إبراهيم الدبس، اختصاص هندسة معمارية وماجستير بالمعهد العالي، تحدث عن مشاركته في البحث من خلال العناية بجانب الفرص المكانية، مشيراً إلى وجود مجموعة من الفرص تواجدت ضمن المدينة مثل الفراغات العمرانية التي نشأت نتيجة بعض المداخلات التنظيمية على المدينة وكيف يمكن الاستفادة منها وتنظيفها بدلاً من أن تتحول إلى مناطق مهملة كما هي موجودة حالياً، والتي تحول بعضها إلى مواقف سيارات بشكل غير منظم حيث تم وضع رؤى وأهداف نهائية على المدى القريب والمتوسط والبعيد ومجموعة حلول لنقل مواقف السيارات إلى أماكن حول المدينة، ودعم المشهد الطبيعي للنهر من جهة الغوطة الشرقية، والحفاظ على النسيج الطبيعي والتاريخي للمدينة من خلال دعم وتأهيل الفراغات والساحات العامة وإعادة توظيفها بالشكل الصحيح.