ربما تكون الدراما التلفزيونية والحِرف اليدوية التراثية في مقدمة الصناعات الإبداعيّة في سورية، ليس لأنهما استطاعتا باستمرار إعادة إنتاج الإبداع بأشكالٍ ووجوهٍ مُختلفة فحسب، بل لأنهما أيضاً عرّفتا الآخر عربياً وعالمياً بتفاصيل تتعلق بالهوية المحليّة، وهو ما لم يتحقق إلى حدٍّ ما في صناعاتٍ أخرى تُوصف بالإبداعيّة كذلك، لم تجد دعماً كافياً أو أنها بحاجة لإعادة نظر للعمل بآليةٍ وفكرٍ جديدين.

وعلى كثرة الأسباب التي يُمكن الحديث عنها، أتاح مؤتمر الصناعات الإبداعيّة، المُقام مُؤخراً في مكتبة الأسد الوطنية، تحت إشراف كلٍّ من وزارة الثقافة والهيئة العليا للبحث العلمي والجامعة الافتراضية السورية، الاطلاع على عشرات الأبحاث والدراسات في ميادين عدة منها "الإعلام، المسرح، السياحة، الموسيقا، الاقتصاد، المعلوماتية، المدن الإبداعيّة، النشر"، التقت جميعها عند محاولات تحديد المصطلح وكيفية العمل به وفق المتطلبات والظروف الحالية، ومن ثم تشعبت نحو الجدوى الاقتصادية والاجتماعية للاستثمار في هذه الصناعات، وأهمية التراث في تطويرها، إلى جانب دورها في تحقيق التنمية المستدامة.

مُصطلح ومجالات

في الحديث عن مصطلح "الصناعة الإبداعيّة"، استحضر الكاتب ومدير عام مكتبة الأسد الوطنية إياد مرشد، ما قاله الكاتب الأسترالي جون هارتلي في كتابه الصناعات الإبداعيّة: "الوظيفة الاجتماعية للإبداع لا تتحقق لأن الأفراد مبدعون، لكن حين يتوافر لهؤلاء الأشخاص النمو والمال والبنية التحتية والتنظيم والأسواق وحقوق الملكية، وعمليات واسعة النطاق يمكنها استيعاب ذلك الإبداع".

مؤتمر الصناعات الإبداعية

وأضاف مرشد: "بدأت الممارسة للصناعة الإبداعيّة قبل التنظير لها، غير أنّ أول من وضع تعريفاً للصناعات الإبداعيّة هي دائرة الثقافة والإعلام والرياضة في المملكة المتحدة عام 1998، قالت (إنها الأنشطة التي تعود أصولها إلى الإبداع الفردي والمهارات والموهبة الفردية التي يمكنها أن تتطور لتجني المال والثروة وتخلق فرص العمل من خلال إنتاج واستغلال الملكية الفكرية).

عالمياً، أخذ المصطلح بُعداً مختلفاً مع تبني منظمات الأمم المتحدة له؛ اليونسكو في تقاريرها أعوام 2008-2010 -2013 تحدثت عن الاقتصاد الإبداعي، وجعلت الصناعات الإبداعيّة من أهم الأولويات في هذا المجال. كذلك صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2/ 55 مُؤكداً أهمية الثقافة في التنمية. وفي السياق ذاته عرّفت منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد" الصناعات الإبداعيّة بأنها (السلع والخدمات التي تتخذ الإبداع ورأس المال الفكري كمدخلاتٍ أولية أو رئيسية).

وأوضح مرشد إن مجالات الصناعية الإبداعيّة تتوزع بين: "صناعة حقوق النشر" تشمل الفنون الإبداعيّة، الموسيقا، الإعلام، عدد من البرامج الإلكترونية، "صناعة المحتوى" تتضمن الخدمات الإعلامية والبرمجيات، "الصناعات الثقافية" أي الصناعات الأساسية التي تتحدد في ضوء وظيفة السياسة العامة لأنها عادة مدعومة من الدولة كالمتاحف، الفنون، الحرف البصرية، فنون الأداء والإذاعة، "المحتوى الرقمي" يتحدد عبر الجمع بين التكنولوجيا وبؤرة إنتاج الصناعة من تسجيل صوت وتخزين معلومات واسترجاعها والألعاب الإلكترونية.

القيمة المُضافة

أَوردَ الإعلامي المختص في الشأن الاقتصادي زياد غصن مجموعة مواصفاتٍ محليّة، تتسم بها الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية المُصنفة دولياً في خانة الصناعات الإبداعيّة، وفي مقدمتها أن جزءاً هاماً منها يعتمد على الجهد الفردي، وهو عبارة عن مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر كالأنشطة الفنية والتقانة والتصاميم، إضافةً إلى أن القطاع الخاص والأهلي محرك أساسي لها كالأنشطة التراثية والحرفية، المعارض، والمهرجانات السياحية، كذلك تقوم الحكومات غالباً بالتيسير والتنظيم عبر التسهيلات والاتفاقيات الداخلية والخارجية.

أيضاً رصد غصن عدة ملاحظات منها: جزءٌ هامٌ جداً منها هو ضمن اقتصاديات الظل "غير مرخص، لا يسدد رسوماً وضرائب، حقوق العمال غير محفوظة، بيئة العمل غير لائقة"، ليست هناك أي بيانات رسمية أو غير رسمية ترصد واقع وعمل أي جانب من الصناعات الإبداعيّة في سورية، لا سيما على مستوى المؤشرات الاقتصادية الكلية.

أمّا عن القيمة المُضافة للصناعات الإبداعيّة، تحدث غصن بدايةً عن فرص العمل: البيانات غير الرسمية تُظهر أهمية الأنشطة الإبداعيّة، فمثلاً هناك أكثر من 6000 فتاة وسيدة، معظمهن من مدينة دوما كنّ قبل الحرب يشكلن الحلقة الرئيسية في إنتاج أقمشة الأغباني. كما تُؤكد تقديرات ما قبل الحرب وجود 22 ألف كيميائي في سورية، للأسف هاجر معظمهم خلال الحرب، في حين أنّ عدد العاطلين عن العمل جراء الأضرار التي لحقت بالقطاع السياحي بسبب الحرب يصل إلى 258 ألف عامل منهم 86 ألف بشكل مباشر و172 ألف عامل بشكل غير مباشر.

يُضاف إلى ما سبق: تحسين مستوى المعيشة بالنسبة إلى الفرد والمؤسسة، الاستقرار والتماسك الاجتماعي، توثيق الذاكرة الوطنية "مشروع مدونة وطن يحوي اليوم أكثر من 65 ألف مادة ترصد تحولات الحياة السورية وتوثق ذاكرتها وإبداعات أبنائها"، وتنشيط الدورة الاقتصادية، فوفق تعداد المنشآت الاقتصادية والاجتماعية لعام 2019 – 2020 والذي شمل في مرحلته الأولى 5 محافظات تبين وجود 57 منشأة صُنفت ضمن خانة الأنشطة الإبداعيّة والترفيه والفنون، 58 لأنشطة البرمجة الحاسوبية والخبرة الاستشارية، 3 منشآت لأنشطة البحث والتطوير العلمي، 215 لأنشطة النشر.

مشاريع مُنفّذة

محلياً أيضاً، استعادت مديرة المهن السياحية في وزارة السياحة راما الشيخ، مرسوم إحداث الوزارة، والذي تضمن شرحاً لمهامها، ومنها التعريف بطبيعة البلاد وتراثها الحضاري وأماكن السياحة فيها وترويجها، وعلى ذلك نُفذت عدة مشاريع في إطار الربط بين الصناعات الإبداعيّة في هذا الميدان والأسواق المستهلكة لها في القطاع السياحي:

إطلاق الخارطة السياحية الرقمية، تفعيل استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في عملية التسويق السياحي، تنفيذ فواصل إعلانية ترويجية لمواقع الجذب السياحي باستخدام تقنيات التصوير بالكاميرا الطائرة، إقامة أسواق جديدة للصناعات التقليدية والمهن اليدوية في عددٍ من المحافظات، تأمين حاضنة جديدة للحرف التراثية تستوعب الحرفيين التراثيين، تطوير آليات تسويق المنتجات والصناعات التقليدية داخلياً من خلال أسواق المهن اليدوية وخارجياً من خلال المشاركة في المعارض السياحية الدولية.

سينما وتلفزيون

درامياً، قدّم رئيس لجنة صناعة السينما والتلفزيون علي عنيز، لمحةً عن مؤسسته التي تُنظّم شأن شركاتٍ وأشخاص يعملون في مجال إنتاج وصناعة الإبداع السوري سينمائياً وتلفزيونياً، وما يدخل في هذه الأعمال من رؤوس أموال ضخمة تُضاهي الصناعات الثقيلة، وأشار إلى معاناةٍ سابقة بغية توطين المهنة، تحت مسمى وبنود الصناعة، لكن البعض لم يوافق على ذلك، إلى أن تم التوافق على أنها صناعة ومن النوع الثقيل أيضاً.

ضمن الجدوى الاقتصادية التقديرية التي تقوم اللجنة بإعدادها سنوياً لهذه الصناعة ومنتجاتها، وما تسهم به من رفد ودعم للاقتصاد الوطني، فقد أنتجت في الموسم الماضي حوالي ثلاثين عملاً درامياً بحجم نفقات يتجاوز الثلاثين مليار ليرة سورية، وهو رقم يمثل دورة رأسمال سنوية تضخ في السوق المحليّة وتُعيل عدداً كبيراً من الأسر، على حد تعبيره.

ولفت عنيز إلى أن الصناعات الثقافية تلعب دوراً كبيراً في الاقتصاد اليوم، فمن لا يشاهد الأفلام ويستمع إلى الموسيقى ويقرأ الكتب ويُطالع الصحف، أيضاً التطور التكنولوجي المتسارع والابتكارات الحديثة كان لهما تأثيرٌ كبير ليس فقط في سهولة وصول الأفراد إلى تلك الصناعات من خلال قراءة الكتب عبر الإنترنت أو مشاهدة الأفلام عبر نتفليكس أو يوتيوب، ومشاركة الأغاني والمقاطع الأدائية عبر مواقع التواصل، إنما أسهم كذلك في سرعة انتشار تلك الإبداعات.

تساؤلات وأفكار

طرح المشاركون تساؤلات وأفكاراً حول ضرورة تكريس مصطلح الصناعات الإبداعيّة في سورية، بموازاة هجرة الحرفيين وشراء المبدعين السوريين من قبل دول الجوار، كما بحثوا في القوانين والشرائع المتعلقة بالصناعات الإبداعيّة في مختلف المجالات، وكيفية اختيار المشاريع المناسبة لدعمها، وإمكانية تحقق فائدة ومردود على المستوى الوطني الاقتصادي.