عاش يلماز غوني، الشخصية البارزة في عالم الثقافة التركية في النصف الثاني من القرن العشرين، سبعة وأربعين عاماً، قضى أحد عشر منها في السجون، ونصف سنة في المنفى، وعامان في الجيش، وثلاثة أعوام في الغربة. ورغم وقته القصير في الإبداع، لكنه قدم ما يضاهي المعجزة؛ فقد كتب سيناريو لثلاثة وخمسين فيلماً ومثّل في مائة وعشرة أفلام، وأخرج سبعة عشر فيلماً، وأصدر أربع روايات.

اسمه الأصلي يلماز حميد أوغلو بيوتون، من مواليد قرية ينيدجة- أدنة، عام 1937. انخرط في عراك الحياة مبكراً، فعمل في بستان فاكهة وهو في عمر الخامسة عشرة وفي مواسم القطن وفي السقاية. وإلى جانب دراسته في أدنة عمل في بيع الجزر والكرز والبندق في الشوارع، ومن ثم بائع صحف وأجيراً عند البقال. وأول عمله في السينما كان من خلال شركتي "أند فيلم" و"كمال فيلم" كميكانيكي لآلات التشغيل السينمائي. انتقل من قرية إلى قرية لعرض الأفلام، ومن ثم عمل في مؤسسة "دار- فيلم"، حيث كان يضع البرامج السينمائية وطريقة تسيير الأجهزة المتنقلة لعرض الأفلام، قبل أن ينتقل إلى مكتبها الرئيسي في استانبول.

النتاج الأدبي

وصل العامل في مؤسسة "دار- فيلم" والقاص يلماز غوني إلى مدينة استانبول عام 1957 وفي جيبه القليل من المال، على أمل أن يجد عملاً بمردود جيد. وبعد عدة أيام نشرت مجلة "بازار بوستاسي" قصة له بعنوان "مستقبل بلا أمل". وبعد عام واحد قررت المحكمة سجنه سبع سنوات ونصف لاتهامه بالشيوعية بعد نشره قصة بعنوان "ثلاثة عوامل خفية لعدم المساواة الاجتماعية". بعد أن استأنف الدعوى، لم يأخذ بنصيحة أصدقائه في مغادرة البلاد، فصدر قرار بسجنه عام ونصف، إضافة إلى نفيه نصف عام. أنجز في سجنه لمدة عام ونصف ومن ثم في منفاه في مدينة "قونية" روايته الأولى "ماتوا ورؤوسهم محنية"، والتي ترجمت إلى اللغة الروسية فيما بعد. تنتمي الرواية إلى الواقعية الاشتراكية، وربما تكون قصة الكاتب ذاته وقريته والصراع بين الإقطاع والفلاحين. وفيها اعتبر نثر "غوني" بحد ذاته فناً سينمائياً، كمشاهد تبادل النيران بين خليل ومطارديه، ومشهد ضرب أمينة، والعراك في المقهى.

صائد الغزلان

خرج غوني من السجن بدون عمل بعد قام صاحب شركة "دار- فيلم" بفصله، ولكن لم يتركه أصدقاؤه وحيداً في هذه المحنة، بينهم صاحبا شركة "كمال- فيلم" المخرجان عاطف يلماز وآزار كمال؛ حيث بدأ غوني معهما في كتابة السيناريو ومساعد مخرج، وممثلاً أحياناً. ومن هذا المنطلق اعتبر غوني هذين الصديقين معلميه في السينما عرفاناً لهما. وظهر في أول دور له كممثل في شخصية "صائد غزلان" في فيلم "الأيل الأحمر" للمخرج عاطف يلماز، ولكن هذا الدور مر مرور الكرام. أما دوره الثاني في فيلم للمخرج نفسه بعنوان "أبناء هذا الوطن" حيث لعب دور البطل المناضل من أجل التحرر القومي للشعب التركي، فقد حقق له نجاحاً كبيراً.

النجم الأول

في نهاية عام 1963، عاد غوني إلى استانبول بعد أن ابتعد عنه أغلب معارفه خوفاً من صبغته اليسارية، باحثاً عن فرصة جديدة، إلى أن عرض عليه صديقه المخرج "فريد جيهان" كتابة سيناريو لفيلمه الجديد ولكن باسم مستعار هرباً من عراقيل الرقابة وكان باسم "يلماز غوني"، وتم الاتفاق ولعب دور الرئيسي كممثل أيضاً. هكذا أدخل فيلم "المقدامان" في السينما التركية تحولاً مهماً، ومنذ هذه اللحظة تغير لقب "بيوتون" إلى "غوني". ونجح الفيلم والشخصية التي أداها نجاحاً كبيراً، وانهمرت الأدوار عليه كالمطر، ليمثل في عام 1964 في أحد عشر فيلماً، وفي عام 1965 في اثنين وعشرين فيلماً، كتب السيناريو لثمانية أفلام منها، وحققت هذه الأفلام نجاحاً كبيراً لأن صورها مأخوذة من واقع البؤساء، وغالباً ما كانت تعرض في صالات الدرجة الثانية في الأحياء الشعبية الفقيرة، لأن أصحاب الصالات الفاخرة حينها لم يسمحوا بدخول الصنّاع وماسحي الأحذية وبائعي الأرصفة بثيابهم الرثة إلى صالاتهم. ومن هذا المنطلق أحجم أصحاب هذه الصالات عن عرض هذه الأفلام عندهم، قناعة منهم بأنها غير مربحة.

ملك الشاشة

غامر صاحب إحدى الصالات الكبيرة وسط استانبول بعرض فيلم من سيناريو وتمثيل "غوني"؛ حيث تدفق الجمهور على الصالة بشكل منقطع النظير، وبعدها أصبحت الأفلام التي يشارك فيها تعرض في أفخم صالات بكبريات المدن التركية. وتعدى نجاح أفلامه جميع الأفلام التي كانت تعرض حينها بتوقيع كبار المخرجين والممثلين والتي تصرف عليها مبالغ هائلة، وسموا "يلماز غوني" عمداً "ملك الشاشة القبيح" في ذلك الوقت، ولكنه استغل هذا اللقب بإيجابية، ولقّب نفسه بنفسه بهذا الاسم، حيث يقول في أحد حواراته: "عندما بدأت التمثيل في السينما، وضعوا لي المكياج كي أظهر بمظهر البطل القبيح الشكل. اضطر المنتجون والمخرجون الذين كانوا يكرهونني، إلى الاعتراف بأن هذا الشاب القبيح يمثل الأدوار أفضل من ممثلينا الوسيمين، عندها قلت ما داموا هم ملوك وسيمين، فليكن أنا الملك القبيح، وحينها انتهزت الصحف الفرصة لترويج هذا اللقب وإلصاقه بي".

الإخراج

وبعد كل هذه النجاحات، قرر غوني أن يصبح مخرجاً سينمائياً، وهذا لم يمنعه من القيام بالتمثيل أيضاً، كما أنه لم يتوقف عن أعماله الأدبية. وهكذا ظهر أول فيلم من إخراجه بعنوان "اسمي كريم" الذي كتب له السيناريو بنفسه ومثل فيه دور البطولة، وبعده فيلم "سيد خان" عن مسرحية للكاتب ناظم حكمت بعد تعديلات عليها لأن الرقابة رفضت بمجرد وجود اسم "حكمت". وبعد هذا الفيلم لم يتمكن من تمويل وإخراج فيلم واقعي آخر، واضطر إلى أن يضع فيلمين تجاريين هما "نوري الرغوث" و"الذئاب الجائعة" من كتابته وبطولته، ليبدأ بفيلم واقعي آخر فكرته عدم مبالاة المجتمع البرجوازي بمصائر الكادحين، وتواطؤ الصحافة والضحالة الخلقية للطبقات العليا والتفوق الخلقي لما يسمى بشرائح المجتمع الدنيا، إنه فيلم "القبيح"، الذي اعتبر كأحسن فيلم، وهو كأحسن ممثل لأدوار البطولة في المهرجان السينمائي التركي الذي أقيم في "أنتاليا" عام 1970، وأحدث نجاح يلماز غوني ضجة كبيرة هزت المحيط الرجعي، فأخذت هذه الأوساط تشهّر به في صحافتها المبتذلة وتتدخل في حياته الشخصية الخاصة. في هذا الوقت، قررت السلطات تجنيده في الخدمة العسكرية وسوقه إلى كتيبة الانضباط، رغم أن دراسته تعطيه الحق للحصول على رتبة ضابط، ولكن الحكم الذي سجن من أجله بتهمة دعايته للأفكار الماركسية تلغي تقليده هذه الرتبة.

جوائز عالمية

بعد قضائه الخدمة الإلزامية، عاد إلى استانبول، لتبدأ مرحلة النجومية مرة ثانية، وبدأ بتنفيذ فيلمه "الأمل" ولعب الأدوار إلى جانبه أهم وأميز السينمائيين الأتراك، وعرض في المهرجان السينمائي في مدينة أدنة، وحاز على لقب أفضل فيلم، ورغم ذلك منع عرضه جماهيرياً بحجة تشويه حقيقة المجتمع التركي، ولكنه عرض في مهرجان عالمي في مدينة غرينوبيل، ومنح جائزة خاصة لجدارته، وعرض في أوروبا وأفريقيا وأمريكا الشمالية، وبعدها مثّل في تسعة أفلام كلها من كتابته.

صالبا والمتهم

إضافة إلى هذه الأفلام التي ذكرناها، اشترك في عشرين فيلماً لمخرجين آخرين، وطبعت روايته "ماتوا ورؤسهم محنية"، وحازت أفلامه "اليائسون، الضيم، المرثية" في مهرجانات تركيا على أهم الجوائز، واعترفت به لجنة المهرجان كأحسن كاتب سيناريو وأحسن مخرج وأحسن ممثل لأدوار البطولة، ولم يسبق أن حدث هذا في تاريخ السينما التركية. وبعد عام وجهت النيابة العسكرية تهمة جديدة "دعم الفوضويين وإيوائهم" ليعتقل مرة أخرى ويحكم سبع سنوات مع الأشغال الشاقة. كتب يلماز غوني في سجن "سليمية" روايتيه "صالبا" و"المتهم"، وكتاب آخر "زنزانتي"، وأيضاً كتب مائة وسبع وسبعين رسالة جمعها في كتاب تحت عنوان "رسائل من سليمية". بعد ثلاثة أعوام أعفي عنه بعد استلام "بولند أجاويد" السلطة، فبدأ نشاطه من جديد ونفذ فيلم "الزميل" ومن ثم فيلم "القلق" الذي لم يكمله بسبب اعتقاله من جديد، فتولى إتمامه صديقه المخرج "شريف غورين".

السينما من وراء القضبان

هناك الكثير من الروائيين والكتاب العالميين كان لهم نتاج وهم في السجون، ولكن أن تنتج وتخرج أفلاماً من وراء القضبان، فلم يعرف التاريخ سابقة لهذه الحالة. لقد نفذ غوني بحدود عشرة من أفلامه في السجن، ولكن ركز الكتاب والنقاد أكثر على "الضيم، القطيع، العدو، الطريق"، والتي بدت أكثر شهرة ونالت جوائز محلية وعالمية.

يتبع يلماز غوني سياسة الاحتجاج الاجتماعي أكثر فأكثر في أعماله، فهو يجسد حالات مختلفة في بلد تختفي فيه الديمقراطية رغم إعلانها، في دولة تسود فيها علاقات الملكية، والبيروقراطية والاضطهاد والعنف والفساد، وتظهر هذه الجوانب في أفلامه مثل "الأمل"، "اليائسون"، "المرثية"، "الضيم"، "الأب"، "الزميل"، وفيلم "الطريق" الذي حصل من خلاله على جوائز محلية وعالمية. "القطيع"، "العدو"، "الطريق"، هذه الأفلام التي تجسد مرارة إنسان ومجتمع يسود فيه الخوف والكراهية والاستبداد، لا سيما فيلم "القطيع" الذي منح أهم جائزة في المهرجان العالمي الثاني والثلاثين في "لوكارنو"، وفيلم "الطريق" الذي حصل على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان "كان" الخامس والثلاثين.

المرحلة الأخيرة

في عيد الأضحى عام 1981 منح "غوني" إجازة لمدة أسبوع من السجن شريطة أن يقضي ثلاثة أيام منها على شاطئ البحر بالقرب من "أنتاليا" والأيام الباقية في موطنه، فاستطاع الهرب بقارب صيد ووصل اليونان، وغادر بمساعدة أصحاب شركة "كاكتوس- فيلم" إلى "سويسرا" ولكنها رفضت لجوءه، وتوجه إلى باريس، وحصل على اللجوء السياسي، وجردته تركيا من الجنسية التركية، واعتبرته مجرماً ضد نظام الدولة، وحجزت على ما تبقى من أملاكه. وفي عام 1982 بدأ بتصوير فيلمه الأخير بعنوان "الجدار". شارك الفيلم ما يقرب من ثلاثمائة طفل من أبناء وطنه ممن يعيشون في الخارج إلى جانب شباب فرنسيين وشباب من أمريكا اللاتينية. وصور الفيلم في كنيسة مهملة، تحولت إلى ديكور لسجن رهيب. وفي 9 أيلول 1984 توفي المخرج السينمائي الكبير يلماز غوني إثر مرض عضال في باريس.

----

المراجع

-يلماز غوني، الحياة المأثرة، تأليف أ.أ. حسينوف، ترجمة لمعان إبراهيم.

-حوار مع يلماز غوني، المخرج والفنان السينمائي الأبخازي السوفييتي يوسف دانيلوف.

-فن كتابة السيناريو، أونغرون.

-قاموس الأفلام التركية، أوزكوج.