حرص الإنسان عبر التاريخ على ضمان سلامة ونقاء المياه لاستخدامها، سواء لغايات الشرب أو الاستحمام عبر تجارب علمية وعملية وصولاً إلى العصور الحالية في استخدام الفلاتر في الصناعة والتجارة.

من المفيد إلقاء نظرة حول تاريخ تطور معالجة المياه بالتطورات التي طرأت على الصحة العامة عبر العصور. فقد أشارت مخطوطة سنسكريتية تعود إلى القرن الثالث ميلادي إلى بعض الطرق لتنقية المياه كتسخينها تحت أشعة الشمس حتى درجة الغليان أو تمريرها عبر الرمال والحصى الخشن. وفي المعابد المصرية تُوضح بعض الرسومات أساليب متعددة لمعالجة المياه، وهناك نظرية أبقراط حول الأخلاط الأربعة التي استخدم المياه من خلالها لمعالجة مرضاه. وفي التاريخ الحديث ظهرت عمليات تحلية المياه بناء على نظريات وتجارب علمية لمعالجة المياه عبر أساليب الترشيح المختلفة عبر الرمال، وكذلك استخدام جهاز الميكروسكوب لفحص عينات المياه ومن ثم ظهور المخابر والتجهيزات الخاصة لذلك.

ومع أن أول استخدام فعلي للمرشح الرملي لتنقية المياه كان عام 1804 وبعدها ظهرت الكثير من المعايير والضوابط والتطبيقات العملية لأبحاث علمية في تنقية المياه وخاصة بعد تطبيق قانون المياه النقية على مستوى دول العالم، إلا أن العلم والبحث العلمي دائماً يحمل معه الجديد. فقد توصل الدكتور عبد الرزاق الحمال عضو الهيئة التدريسية في جامعة حلب اختصاص كيمياء تطبيقية وصناعية إلى تحضير نوع جديد من الفلاتر المستخدمة في معالجة مياه الشرب ومياه الصرف الصحي والمياه الناتجة عن المصانع الكيميائية المختلفة. من خلال بحثه الجديد تحت عنوان (تحضير أغشية سيراميكية جديدة من الزيوليت السوري مطعمة بجسيمات الفضة النانوية لمعالجة مياه الآبار).

من الطبيعة

تتمحور فكرة البحث وفقاً لما أكده الدكتور الحمال، حول تحضير منتج جديد ليس متوفراً في السوق المحلية بشرط الاستفادة من المواد الخام الموجودة في الطبيعة والجغرافيا السورية المعروف أنها تمتلك أنواعاً كثيرة من التربة الحمراء والرمل والغضار والصخر الأسود والبازلت والحجارة البركانية، وكلها تفيد وتساعد في تحضير هذا المنتج، بحيث يمكن تحويلها إلى حبيبات ناعمة مع إضافة بعض المواد الكيميائية المتوفرة والقيام بمعالجة حرارية في الفرن لنحصل على هيكل ثابت مثل السيراميك، ولكنه يحوي على فراغات تحجز الملوثات وتنقي المياه. فقد بين الدكتور عبد الرزاق حمال أنه بالإمكان التحكم بحجم الفراغات بحيث يتم حجز أكبر كمية من الملوثات التي يراد التخلص منها. ومن المهم في هذا الأمر أنه يمكن استخدام المنتج لمعالجة المياه بالتخلص من الجراثيم ومن المواد الصلبة والمعلقات والأشنيات. ويستفاد منه في تنقية الصناعات الكيماوية بحيث يتم التخلص من المواد المضافة. لافتاً إلى أن كل مادة تتم إضافتها تعطي تأثيراً سلبياً إضافة إلى التأثير الإيجابي، ولكن في هذا المنتج والهياكل التي تم تصميمها وفقاً للبحث لا يوجد فيها أي أثار سلبية على الإنسان وتكلفتها منخفضة، باعتبار أن جميع المواد محلية من الطبيعة السورية وليست مستوردة ولا يوجد سوى التكلفة الإنشائية للمنتج.

مدى الحياة

هناك فرق بين المواد والطرق السابقة في الفلترة والتي تحتاج لاستبدال الأجهزة والأدوات كل عدة أشهر أو سنة وبين أن تكون دائمة. فقد بين الباحث إمكانية إعادة استخدامها مرات طويلة لكونها قابلة للتنظيف، واستخدامها بشكل صحيح يعني بقائها مدى الحياة إذ يمكن غسلها كل أسبوع مثلها مثل أي صحن في البيت. مشيراً إلى أن العمل البحثي سواء لهذا المنتج أو غيره هي عملية تراكمية واستمرار، حيث بدأ العمل على بحثه منذ عام 2012 بعد أن سجل رسالة الدكتوراه. وفي عام 2017 حصل عليها بعد أن استمر في عملية البحث عن إضافات لهذا المنتج واستخدام أنواع جديدة وخاصة أن ما تم تقديمه حول المنتج هو أنموذج صغير ولكن هناك منتج قابل لاستقبال تقنيات مختلفة لتطويره على مستوى مشاريع كبيرة وضخمة.

خلفيات الفكرة

انطلقت فكرة البحث من المعاناة الكبيرة لسكان مدينة حلب في الحصول على مياه نظيفة ونقية خلال فترة الحرب، حيث تزامن ذلك مع فترة تحضير الباحث لرسالة الدكتوراه الخاص به، فقد كان الاعتماد على مياه الآبار التي كانت سبباً في انتشار العديد من الأمراض. وعليه وبحكم عمله في المجال الكيميائي كان يقوم بتحليل مياه الآبار ليتبين بأنها مخالفة جرثومياً وتشكل خطراً مباشراً في ظهور أمراض كثيرة، وعليه بدأ العمل والتجارب والبحث في عدة طرق للوصول إلى مياه نقية باستخدام مواد من الطبيعة من صخور متنوعة موجودة في الجغرافيا السورية. أما التركيز على جسيمات الفضة النانوية، فهي لكونها مقاومة لجميع العوامل الطبيعية وتمتلك خصائص مميزة في مقاومة الأكسدة والتآكل، كما أن جسيمات الفلزات النانوية، الخاصة بالفضة مثلها مثل الذهب قد جذبت أنظار واهتمامات العديد من الباحثين، وذلك بسبب خصائصها الفريدة. فعلى سبيل المثال، جسيمات الفضة النانوية لها قدرة عالية في استخدامها كمحفز، وكمضاد للبكتيريا والميكروبات، كما تتميز بأن لها موصلية عالية، ما يؤهلها للاستخدام في مجال الإلكترونيات، لذا فإن تطبيقاتها واسعة ولا تقتصر على مجال واحد فحسب، بل تشمل حقولاً مختلفة في الصناعة والطب والهندسة والبيئة، وعلى رأسها معالجة المياه من التلوث بالأصباغ الكيميائية العضوية المتواجدة بالقرب من المناطق الصناعية.

يقول الدكتور الحمال: إن هذا البحث قد لا يرى النور إلا بمساعدة بعض الجهات التي يجب أن تساهم في وضع المنتج في أيدي المواطن السوري. فعلى سبيل المثال هناك جانب يتعلق بوزارة الصناعة لكونه مشروعاً صناعياً، وهناك جانب كبير يتعلق بالبيئة وآخر يتعلق بوزارة الموارد المائية. وفي كل الأحوال هذا المنتج في حال تطبيقه على المشاريع سيحقق أرباح كبيرة.