ينظر إلى البحث العلمي على أنه فلسفة فكرية تتبعها منهجية عمل، تبدأ من دراسة الحالة والظواهر المحيطة وجمع البيانات وتحليلها واستقرائها، وصولاً إلى المقترحات والاستنتاجات والتوصيات التي من خلالها يسهم في صناعة القرار الصحيح المبني على منهجية علمية صحيحة.
يقدم البحث العلمي حلولاً خارج الصندوق للكثير من المشاكل التي قد تبدو عصية على الحل ويساهم في تعزيز رأس المال الفكري الوطني وصقله. وبالتالي هو أوسع بكثير من بعض الزوايا الضيقة التي ينظر إليها البعض نحوه. وفقاً لما أكده الدكتور مجدي الجمالي رئيس الهيئة العليا للبحث العلمي من خلال طرحه البحثي حول موقع سورية في مؤشرات البحث العلمي العالمي.
استقى الدكتور الجمالي مؤشراته المتعلقة بموقع سورية في مؤشرات البحث العلمي العالمي، من تقارير حديثة منها مؤشر رأس المال البشري من مجموعة البنك الدولي وتقرير الأونكتاد للتكنولوجيا والابتكار ومن تقرير اليونسكو للعلوم ومن مؤشر الابتكار العالمي، التي بينت أن سورية تغيب عن الكثير من هذه المؤشرات.
الخارطة اللونية
تأخذ الخطوط البيانية ألواناً عدة معبرة عن واقع الدول في الموضوع البحثي والتكنولوجي. ففي الدول المتقدمة يرتفع الخط البياني في العصر الحديث نحو الثورة الصناعية الرابعة، وفي أحد الاستقراءات المهمة جداً أن هذا الزمن ليس زمن الموارد الطبيعية فقط، فمن الملاحظ أن معظم الدول ذات الموارد الطبيعة ومن ضمنها النفط، تؤشر باللون الأزرق على خارطة التطور التكنولوجي، في حين يبرز اللون البرتقالي للدول التي عرفت كيف تستثمر مواردها الطبيعية بطرق معرفية. يبين الدكتور مجدي الجمالي أن التعويل على الموارد الطبيعية لم يخدم الاقتصاد كثيراً، فقد أصبح التعويل اليوم على المعرفة والمنتجات المعرفية لتحقيق النمو الاقتصادي في هذه الدول ومنها سورية. وبالتالي من يستحوذ على هذه السوق المعرفية يكون له مكاسب كبيرة. وهنا نجد غالبية الدول المتقدمة تأخذ اللون البرتقالي في حين البلاد الفقيرة ستزداد فقراً. مشيراً إلى أن منتجات هذه السوق هي منتجات معرفية وإنترنيت الأشياء والنانو تكنولوجي التي تخدم هذه الصناعة، وأن سورية من الدول المتأخرة والنامية في هذا الجانب، ولكن لديها فرصة لتخوض غمار هذه التكنولوجيات وتوطنها وتعمل بها.
الاستعداد للتبني
يعتبر مدى استعداد الدول لتبني التقانات المتقدمة، من المؤشرات المركبة الذي يعتمد على خمس مؤشرات رئيسية منها: البنية التحتية في معلوماتية الاتصالات، ومهارات البحث العلمي، النشاطات الصناعية والوصول إلى التمويل، ولدى كل من هذه المؤشرات هناك مؤشرات أخرى. لأنه إذا لم تكن هذه الدول مستعدة لتبني التقانات المتقدمة، فلن تستطيع المنافسة في السوق ولم تكسب حصتها في ماركة هذه المنتجات المعرفية. ووفقاً لهذا المؤشر نجد أمريكا رقم واحد، في حين تظهر بعض الدول العربية بالمرتبة 42 منها الإمارات العربية المتحدة، وبعضها مثل اليمن والسودان في مواقع متأخرة، وكذلك سورية تحتاج إلى الكثير من العمل حتى تستطيع تبني هذه التقانات والتكنولوجيا المتقدمة وتستفيد منها.
يبين رئيس هيئة البحث العلمي أن الأعمال الماهرة لا تغيب عن هذه المؤشرات ولا بد من التدريب لتبني هذه التكنولوجيا، فهناك مؤشر لطيف يتعلق بنسبة العمالة الماهرة والذي شكل في البلدان المتقدمة ذات النمو الاقتصادي الكبير 42% في عام 2020 بينما في الدول المتوسطة المهارة وصلت إلى 52% وبالمقارنة مع الدول المتأخرة في النمو الاقتصادي نجد أن معظم هذه العمالة ليست مدربة وليست مؤهلة بشكل جيد. وأكد بأن هذا المؤشر يتماشى مع عدد الباحثين في هذه الدول. ففي الدول المتقدمة 4260 باحث لكل مليون نسمة، بينما في الدول المتأخرة هو 154باحثاً فقط. بينما في سورية ووفقاً لتقرير اليونسكو للعلوم تبين أن عدد الباحثين لكل مليون نسمة هو 68 باحثاً، وهذا رقم أتى من تقرير الهيئة العليا للبحث العلمي وهو يشكل ناقوس الخطر.
النشر العلمي
هناك أحاديث كثيرة حول مؤشر النشر العلمي الذي يعتبر جيداً وضرورياً. ووفقاً لتقرير اليونسكو للعلوم، فإننا نجد في السعودية 45 ألف نشرة علمية في عام 2019 بينما في سورية 510 نشرات في نفس العام. الفرق كبير، وعليه لا بد من دراسة أساليب زيادة هذا الرقم لأنه مؤشر يعكس ما هو إنتاجنا العلمي والفكري الذي سينعكس في النهاية على الاقتصاد. وبحسب التقرير فإن جميع ما تنتجه الدول العربية في التقانات الحديثة لا يشكل أكثر من 4% من الإنتاج العالمي. طبعاً اقتصاد الدول العربية ومواردها الطبيعية لا يتناسب على الإطلاق مع هذه النسبة الضئيلة جداً، وبالتالي ليست سورية فقط بل معظم الدول العربية، ولكن في سورية بسبب الحرب حدث هذا التأخير عن باقي الدول العربية.
معايير أخرى
مؤشر آخر يتعلق ببراءة الاختراع يبين موقع سورية على خارطة البحث العلمي العالمي، حيث نجد أن المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة في الريادة، في حين أن عدد براءات الاختراع المسجلة في سورية ووفقاً لبيانات العالمية هو قليل جداً. وهناك مؤشر الكتاب العالمي، حيث تصنف الدول بناء على قدرتها في الكتاب وفقاً لمعايير معينة، ونجد أن أمريكا تأخذ رقم 2 بعد سويسرا وهناك الصين وهناك الإمارات العربية المتحدة كأول دولة عربية في هذا المؤشر.
أما ما يخص سورية ووفقاً للخط البياني الذي يربط حصة الفرد مع الناتج المحلي الإجمالي مع مؤشر الكتاب العالمي، نجد خطاً ليس مستقيماً، لأن الكثير من الدول فاق عملها وإنتاجها ما تملكه من ناتج محلي إجمالي. الأمر الذي يوضح ما تملكه هذه الدول من بنى تحتية مقابل ما تنتجه من منتجات معرفية. والخط المستقيم هو الوسط هناك الكثير من الدول وللأسف، ومنها الدول العربية الخليجية، تملك موارد طبيعية وبنى تحتية أكثر بكثير مما تنتجه. يعني أن لديها مشكلة أنها لا تستثمر بنيتها التحتية بالشكل الأمثل. وفي هذا السياق نجد أن المؤشر الأخير والمتعلق برأس المال البشري يعكس مساهمة التعليم والصحة في إنتاجية العاملين وفي إنتاجية الأجيال
ركيزة أساسية
يستخلص الدكتور الجمالي بأن المعرفة ركيزة أساسية للدول وليست الموارد الطبيعية كما كان سائداً سابقاً، وأن ارتباط نشاطات البحث العلمي ونقل التكنولوجيا بشكل إيجابي ومباشر، هو سبب في نمو الناتج المحلي الإجمالي لجميع الدول وليس انعكاساً له. موضحاً المعاناة المتعلقة في هذا الجانب مع بعض المسؤولين الذين يعتبرون أن تعزيز الاقتصاد الوطني يكون بعيداً عن البحث العلمي. والذي قد يكون منطقاً سليماً لو كان البحث العلمي انعكاساً للاقتصاد. في حين أثبتت فلسفة الواقع أن البحث العلمي والتدريب والمنتجات المعرفية هي أساس الاقتصاد.
وعليه نجد أن معظم الدول العربية ومن بينها سورية، متأخرة جداً وتحتاج لدعم موقعها في رأس المال الفكري الوطني وتعزيز البنى التحتية في تشريع البحث العلمي ودعم البحوث التنموية ومتابعة إحداث دوائر بحثية في مؤسسات الدولة.