تنصُّ أدبيات علم إدارة الكوارث على أن الكوارث موّلدِة للفرص بقدر ما هي مسببة للأضرار. فعلى الرغم من آثارها الضارة والدمار التي قد تسبب به، سواء للممتلكات أم للإنسان، إلا أنها تخلق الفرص، ولكن ليس فقط لتصحيح الواقع وإعادته إلى ما كان عليه قبل الكارثة، وإنما لتطويره لمواجهة آثارها التدميرية أو الضارة في حال تكرر حدوثها أو للتقليل من نتائجها. وهذا ما يُسمّى بالدروس المُستفادة من خلال دراسة وتحليل ما حدث لاستخلاص العِبَرْ. وهذا الأمر ينطبق تماماً على نتائج كارثة الزلزال في 6 شباط والهزات الارتدادية التي تبعته وخاصة في 20 شباط.

بيّن الأستاذ الدكتور محمد شعبان أستاذ في كلية الهندسة المدنية بجامعة البعث في بحثه الذي يحمل عنوان (الدروس المستفادة من الزلزال المتعلقة بممارسة مهنة الهندسة في سورية) أن كل ما دار حول زلزال شباط من ندوات ونقاشات وإعلام، يركز في معظمه على ما يجب العمل عليه بعد الكارثة من تقييم للمباني وآلية التدعيم وغيرها. وعليه فقد حصر نقاشه بمسائل تتعلق بممارسة مهنة الهندسة فقط من حيث التخطيط العمراني والتصميم والتنفيذ والإشراف، ومن حيث التعاقد وتصنيف المقاولين وممارسة مهنة المقاولات.

توسع عشوائي

لا شك أن بطء عملية التخطيط العمراني والإجراءات الطويلة والبيروقراطية المُتبعة في توسيع المخططات العمرانية في مختلف المدن السورية أدى إلى ظهور العشوائيات في معظم مناطق سورية، فعملية توسيع المخططات التنظيمية تخضع لرقابة مركزية غير مبررة وتضم إجراءات روتينية كثيرة لا تتناسب مع التطور الديموغرافي للمدن، عدا عن ذلك غياب الرؤية التنموية للريف والمناطق البعيدة عن مراكز المدن، وإن هذه العشوائيات لم تخضع لشروط الترخيص النظامي، وأبنيتها لا تحقق أدنى متطلبات الكود السوري لتصميم المنشآت الخرسانية للحمولات الشاقولية أو الأفقية. وباختصار لا تحقق متطلبات الأمان سواء أتعلق ذلك بالتصميم أم بالتنفيذ. فهذه الأبنية تُشاد في "جنح الظلام" بدون أدنى رقابة فنية، وهي خطرة على شاغليها في الظروف العادية. فكيف الحال إذا تعرضت لقوى الكوارث الطبيعية كالزلازل وغيرها؟ وعليه فإن هذه المناطق كانت مرشحة أكثر من غيرها للأضرار بفعل الزلزال الأخير.

من هنا خلص الدكتور محمد شعبان إلى نتيجة مفادها: ضرورة وضع خطط عمرانية وتنموية لمختلف التجمعات السكنية مدناً وريفاً سابقة للتزايد الديموغرافي بحيث تغطي فترات زمنية طويلة تمتد لـ 25-50 سنة، وبحيث يتم تقليل الإجراءات الروتينية الطويلة وتخفيف المركزية في إقرارها وإعطاء الدور الأكبر للإدارات المحلية في وضعها وإقرارها، فهناك الكثير من المخططات العمرانية التي امتد بها العمل لسنوات عِدة لتأتي اللجان المركزية لتلغي كل الجهود التي بُذلت من قبل اللجان الفرعية ما يبطئ من عملية توسيع المخططات التنظيمية في المدن والبلدات، ويشجع على ظهور هذه العشوائيات.

غياب منهجيات التصميم

يرى الدكتور شعبان أن التصميم هو المسؤول الأول عن جودة تنفيذ المشاريع، وبالتالي ظهور العيوب في مرحلة التنفيذ أو ما بعدها، فالإجراءات المُتبعة في التصميم والتدقيق الهندسيين لا تتم وفق المعايير العالمية، ففي معظم فروع النقابة نجد وكأن المصمم هو نفسه لمعظم المشاريع في ذات الفرع، ويكاد لا يتجاوز عدد المهندسين الذي يمارسون أعمال التصميم في مكاتبهم عدد أصابع اليد، حيث تتشابه الدراسات الهندسية والأخطاء فيها إلى درجة كبيرة، هذا عدا عن تشابه الرسومات والمخططات التنفيذية التي تحتوي الأخطاء نفسها. فلا توجد منهجيات واحدة للتصميم، ومفهوم إدارة مشاريع التصاميم والدراسات يبدو غريباً إلى درجة كبيرة عن مكاتبنا الاستشارية، هذا عدا عن الظواهر الشاذة في سوق الدراسات الهندسية. فهناك مسألة وضع الأختام الهندسية لدى المكاتب المحتكرة للدراسات الهندسية في كل فرع، أو ما يُعرف ببيع الأمتار. ويرتبط التدقيق الهندسي في النقابة بالتصميم بشكل كبير ويتقاسم "التدقيق" المسؤولية في تدني مستوى المنتج التصميمي الهندسي. فعلى الرغم من وجود إجراءات التدقيق في شعبة المكاتب الخاصة، من حيث الشكل، إلا أن التدقيق الحاصل فعلياً هو شكلي ويقتصر على الختم والتوقيع في معظم الحالات. وهذا الأمر يبدو واضحاً من خلال أخذ عينة من المشاريع الهندسية من أرشيف النقابة في عدة فروع. حيث تم إحصاء عدد كبير من أخطاء التصميم والأخطاء التنفيذية على وجه الخصوص. وكل ذلك بسبب عدم وجود منهجيات واضحة لكل من التصميم والتدقيق الهندسيين. كما أن هناك عدم إدراك المصمم (الذي يبيع أمتاره) والمدقق "شكلياً" لمسؤوليته المهنية سواء في قانون ممارسة المهنة رقم 80 لعام 20210 أو وفقاً للقانون المدني السوري. وهناك ملاحظة غياب إجراءات تحقيق جودة الدراسات الهندسية فنياً، سواء ضمن المكتب الاستشاري أم ضمن فرع النقابة لدى تدقيق الدراسات الهندسية في شعبة المكاتب الخاصة للتأكد من تحقيق متطلبات الجودة المطلوبة في الدراسات الهندسية المختلفة. بالوقت الذي نجد أن معظم دول العالم انتقلت إلى ما يُسمّى بقوائم التشييك الفنية Check list-off الصادرة عن الإدارات الحكومية أو الجهات المهنية أو الأكاديمية المعروفة التي تساعد المهندس في التأكد من تحقق الجودة الفنية المطلوبة من حيث الشكل والمضمون.

التنفيذ والإشراف

يبين الدكتور محمد شعبان العلاقة الوثيقة بين التنفيذ والإشراف، فالعمليتان متزامنتان، ولكن في معظم الحالات لدينا تتم عملية التنفيذ دونما رقابة من الإشراف وخاصة في مشاريع القطاع الخاص. ويكاد أن ينحصر دور الإشراف ووجوده فقط في العقود الحكومية وبعض المشاريع للجمعيات السكنية والسياحية، وقد يكون وجود الإشراف شكلياً على الورق فقط. مثلاً في المكاتب الهندسية نجد أن المصمم تنقطع علاقته بالمشروع بعد تسليم المالك المخططات أو الدراسة الهندسية، ولا يعلم المصمم متى نفذ المالك دراسته والأهم كيف نفذ؟ فمن مشاهدات الانهيار بفعل الزلزال نجد أنها تعود إلى تربة التأسيس وعدم الكشف عليها من قبل المهندس الدارس أو اختصاصي التربة، وعلى الرغم من إلزام النقابة أصحاب المشاريع، وخاصة البرجية منها، بضرورة الاستعانة بمهندس مشرف من النقابة بموجب عقود، معظمها شكلي، إذ يقتصر دور النقابة على تحصيل كلفة الإشراف، دون التأكد من أن المهندس يقوم بدوره من خلال توقيعه على إذن الصب ورفع تقارير دورية عن المشروع والجودة فيه.

وعليه يؤكد الباحث على ضرورة أن يرفق عقد الإشراف بملحق عقد توضح واجبات المهندس المشرف من حيث تواجده في المشروع والتقارير التي ينظمها بشكل دوري وخاصة ما يتعلق بأعمال الهيكل الإنشائي لما لذلك من أهمية في تحقيق الأمان والسلامة الإنشائية. فالمهمة الأساسية للإشراف هي تحقيق الجودة فيه وتوثيق التغيرات وأوامر التغيير وإعداد مخططات التنفيذ الفعلية As built drawings. وكذلك على دور النقابة المركزية بالعمل على إعداد عقد إشراف أنموذجي لتعميمه على جميع فروع النقابة والالتزام به، فلقد أكدت مشاهدات الانهيار بفعل الزلزال على ضعف الرقابة على التنفيذ لجهة عدم التقيد باشتراطات الكود فيما يخص تفاصيل إرساء التسليح والمسافات بين الأتاري وخاصة في عقد اتصال الأعمدة مع الجوائز. أضف لذلك سوء نوعية المواد المستخدمة في الخرسانة وعدم وجود سجلات للجودة لأي بناء يتم تنفيذه من قبل القطاع الخاص.

بين التصنيف وممارسة المهنة

تسود ممارسة مهنة المقاولات وتصنيفها فوضى كبيرة وعدم التزام بأصول المهنة وقوانينها، وخاصة في مجال تشييد العقارات من قبل القطاع الخاص، ومعظم الممارسين لهذه المهنة غير مؤهلين فنياً، وتكاد تضيع المسؤولية المهنية ما بين هؤلاء المقاولين "الصغار" والمهندسين المشرفين من النقابة ومهندسي الوحدات الإدارية. هذه الإشكالية تحدث عنها الباحث في دراسته مبيناً أنها تكاد تكون غير موجودة أو ملموسة في القطاع الحكومي كونه يتم العمل فيه بموجب عقود حكومية نظامية تحدد مسؤوليات كل طرف في العقد، وتحدد الجودة المطلوبة (بموجب العقد 51 لعام 2004 على الرغم من الحاجة الماسّة لتطويره بما يتماشى مع التطورات الحاصلة في قطاع التشييد وعقوده) وهذا كان ملموساً من خلال ثبات الأبنية المُشادة من قبل شركات القطاع العام أمام كارثة الزلازل، بينما في القطاع الخاص لا ضابط للجودة على الإطلاق. ومن غير الواضح سبب غياب الرقابة المهنية من قبل الجهات المعنية بعقود القطاع الخاص مع المواطنين الراغبين بالحصول على شقة سكنية. للأسف فإن العقود الرائجة وسط هذا القطاع هي عقود تمويل فقط، يحدد فيها مواعيد الدفعات المالية فقط دونما أدنى إشارة إلى الجودة المطلوبة فيها، وتفتقر إلى العقود النظامية المتعلقة بالجودة، مما سمح لتجار العقارات من تكديس الثروات خلال فترات زمنية قصيرة على حساب المواطنين. وسمح لهم التهرّب من المسؤولية القانونية في إشادة أبنية تتحقق فيها الجودة المطلوبة، فلا رقابة على أعمال المواد المستخدمة في أعمال الهيكل خاصة، ولا رقابة على أعمال الكوفراج والصبّ، ولا رقابة على إجراءات ضمان الجودة في العقد. بمعنى آخر يدفع المواطن ثمن جودة غير موجودة ولم يحصل عليها. وهنا يجب التأكيد على مجموعة نقاط منها التعاون بين نقابة المهندسين ونقابة المقاولين ووحدات الإدارة المحلية من إعداد "عقد هندسي-عقد إشادة وشراء شقة سكنية" مرفق بمواصفات وجدول كميات نظامي خاص بالتعاقد على شقة سكنية أو سياحية. والعمل على الانتقال من فوضى العمل الفردي والعائلي إلى نظام الشركات الهندسية، بحيث يكون لها هيكل إداري وكادر فني وهندسي مسؤول عن أعمال الشركة. وعدم السماح لأي مواطن القيام بأعمال الإكساء أو الترميم دون رقابة من النقابة لمنع إحداث الضرر في العناصر الإنشائية المنفذة. مع ضرورة إعادة النظر بنظام تصنيف المقاولين المعمول به حالياً.

ينتهي الدكتور محمد شعبان في ورقته البحثية إلى ضرورة الانتقال من العمل العشوائي غير المراقب أو الممنهج إلى إتباع ما هو معمول به عالمياً، أي الانتقال إلى قوائم التشييك أو الفحص تصميماً وتدقيقاً وإشرافاً، الذي من شأنه الحصول على الجودة المطلوبة في الأبنية والمنشآت لمقاومة الكوارث الطبيعية وخاصة الزلازل.