كونها من أخطر المشاكل التي تهدد نمو المجتمعات وتطورها، فلا بد من تناولها بشكل منهجي وموضوعي. والحديث هنا عن مشكلة كبيرة تتعلق بتسرب ونزف العمالة في المؤسسات الحكومية وهجرة الكفاءات بشكل عام، والتي باتت تشكل ظاهرة سلبية على هذا القطاع الكبير من الناحيتين العلمية والمادية وتؤثر على خططه التنموية، أضف إلى ذلك حرمان الدولة من الاستفادة من خبرات ومؤهلات كفاءاتها الّتي عملت على تأهيلها على مدار سنوات طويلة.

يعتبر المستفيد الأول والرابح من هذه المشكلة هي بعض الدول الّتي تقوم عبر وسائل عديدة على جذب هذه الخبرات والمؤهلات. من هنا ونظراً لخطورة هذه الظاهرة التي استنزفت غالبية اليد العاملة السورية والفئات الشبابية ومن مبدأ ضرورة وضع سياسات على جميع المستويات الحكومية والأهلية والمجتمعية للحفاظ على ما تبقى من مواردنا البشرية والعقول والأدمغة وتعديل القوانين المتعلقة بهذه المشكلة والحيلولة دون التفريط بالطاقات المؤهلة. أقام المعهد الوطني للإدارة العامة "إينا" سينماراً تناول فيه بطريقة منهجية وأكاديمية أسباب خروج وتسرب الكفاءات إلى أن وصلت إلى مرحلة لها تأثير كبير على أي نوع من أنواع التنمية.

الاستقالات الصامتة

عميد المعهد الوطني للإدارة العامة "إينا" عبد الحميد الخليل بيّن أهمية هذا السيمنار لما يمتلكه من محاور عدة تتعلق بالتحليل الكمي للواقع على مستوى كل الوزارة المطروحة في الدراسة وكل فئة وظيفية ونوع الشهادة العلمية، وعلى مستوى الذكور والإناث ولما توصل إليه من نتائج تبين التسرب الضخم على مستوى الذكور وزيادة على مستوى الإناث وكذلك التسرب الضخم في الشهادة الإعدادية والمعاهد المتوسطة وهما اللذان ينظر إليهما كحوامل التنمية، إضافة إلى ارتفاع نسب التسرب للفئات الرابعة والخامسة من الموظفين.

ويرى الدكتور الخليل أن أهم ما يجب الانتباه إليه في المرحلة الحالية، هو موضوع المحافظة على الباقين في العمل الذين يخططون لتركه حيث تصل نسبتهم إلى نحو 60% وهي نسبة ضخمة جداً وخطيرة؛ إذ يمكن أن يطلق عليها اسم الاستقالات الصامتة، فهناك الكثير ممن يبقى ضمن المؤسسات ويرغب بتركها إن كان هناك فرصة بديلة له. وقد خرجت الدراسة بالتأثيرات الكبيرة لخروج الكفاءات على الجانب الاقتصادي والإداري والاجتماعي والجانب النفسي السلوكي وما يمكن أن يؤثر به على التنمية المجتمعية بكل أنواعها في سورية.

تحسين التشريعات وبيئة العمل

وكيل عميد المعهد الوطني للإدارة العامة "إينا" الدكتور فداء ناصر أشار إلى أهم التوصيات لوقف نزيف وخروج الموارد البشرية من القطاع الحكومي على المستوى التشريعي والقانوني وعلى مستوى تحسين بيئة العمل ومعالجة ضعف الأداء للموارد البشرية المتبقية ضمن هذه المؤسسات كي لا تتسرب أو ترتفع نسبة التسرب في المستقبل. ولفت إلى ضرورة تحسين جملة من القوانين الموجودة للحفاظ على العنصر البشري، على سبيل المثال رفع سن التقاعد إلى 65 كحاجة ضرورية ضمن هذه الفترة المؤقتة، وتحسين الأجور للعاملين والموظفين بعد مقارنتها مع القطاع الخاص الذي يقدم أجوراً أكثر بثلاثة أضعاف من الأجور في القطاع العام. إضافة إلى مراعاة حالة عدم العدالة التي تؤثر بشكل سلبي في هروب الموظف من العمل إلى القطاع الخاص أو خارج القطر.

يقول الدكتور ناصر إنه لا بد من تحسين الأداء وتغطية النقص في بعض الأماكن من خلال نقل الفائض في مؤسسات وأماكن عمل أخرى بعد تدريبهم وتمكينهم بما يتناسب مع عملهم ومهامهم الجديدة، أي عملية توزيع العاملين إضافة إلى الاعتماد على التحول الرقمي والإداري الإلكترونية في تقليص العمالة والاستغناء عنها في بعض الأماكن الوظيفية.

الذكور أكثر تسرباً

مدير الدراسات والمناهج في المعهد الوطني للإدارة العامة "إينا" وعضو الهيئة التدريسية الدكتور أيهم أسد بيّن أن السيمنار هو استكشاف يتعلق بالبحث عن أسباب تركز التسرب الوظيفي في القطاع العام من خلال دراسة استكشافية لمعرفة كيف يكون التسرب الوظيفي ضمن فترة زمنية مرجعية من عام 2010 إلى عام 2022 لمجموعة من الوزارات تشكل "15" وزارة كانت فيها حالات تسرب كبيرة جداً حيث تمت دراسة أعداد العينات وجنسهم والشهادات العلمية لهم وتركزهم في هذه الوزارات، مشيراً إلى أهم النتائج ومنها أن عدد المتسربين في الوزارات المدروسة وصل إلى 190 ألف متسرب، أي أن أعداد الموظفين في القطاع العام عام 2022 مقارنة مع أعدادهم في عام 2010 انخفض بحوالي 190 الف موظف، أغلبهم من الذكور وقد تم تعويض هذه الخسارة من خلال قدرة القطاع العام على استقطاب الإناث. وخلال هذه المدة شهدت حركة التوظيف في القطاع العام تقلب كبير كما تبين بأن التسرب تركز على فئة الذكور من حملة الشهادة المتوسطة والإعدادية وما دون. في حين لم يكن هناك نقص بحملة الشهادة الجامعية.

ولفت الدكتور أسد إلى أن 51% من المتسربين في الوزارات المدروسة تركز في ثلاث وزارات أساسية هي الإدارة المحلية والبيئة والأشغال العامة والإسكان والصناعة، يأتي بعدها في المرتبة الثانية التسرب في وزارتي النقل والتربية. ففي هذه الوزارات الخمس تصل نسبة التسرب إلى 70% تقريباً.

الخلاصة

في نهاية الموضوع تم استخلاص عدد من السياسات والتوصيات والمقترحات لها علاقة بموضوع الاحتفاظ بالكفاءات وجذب من ترك العمل أو تفعيل الأداء الإداري لمن بقي في المؤسسات عبر جوانب لها علاقة بصكوك وقوانين وتشريعات وسياسات الموارد البشري بشكل احترافي وجوانب أخرى لها علاقة بالوعي الاجتماعي وتحفيز الخريجين من أجل الالتحاق بالوظيفية العامة مع التركيز على دعم المرأة وتمكينها وتطويرها، لأن قوة العمل في سورية أصبحت في سورية مؤنثة إلى حد ما حيث حدث تغيير في تركيبة قوة العمل، وبالتالي ما تحتاجه النساء من أجل تفعيلهن أكثر وأكثر باعتبارهن أصبحن يشكلن أكثر من 65% من قوة العمل الحالية ضمن مؤسساتنا.