لم تكن الجراحة العصبية في سورية أو في جميع دول العالم، وليدة السنوات الأخيرة، فهناك تاريخ طويل يمتد لفترة عصور ما قبل التاريخ؛ إذ إن قبائل الإنكا قبل عشرة آلاف عام أجرت ثقوباً في الجمجمة كما ظهر في الآثار المكتشفة. ويُعتقد أنهم أجروا هذه الثقوب بآلات معينة مصنوعة من البرونز.
ترك قدماء المصريين مخطوطات تحتوي وصفاً كاملاً لـ48 حالة رض على الرأس، ووصفاً لتفريغ محتويات الجمجمة أثناء تحنيطها. وهناك كتابات مصرية قديمة تتحدث عن رضوض العمود الفقري والنخاع الشوكي وعن مرض السحايا.
محطات تاريخية
الدكتور محمد حسن قطرميز أخصائي الأمراض العصبية وأول رئيس شعبة جراحة عصبية في سورية، تحدث حول التطور التاريخي للجراحة العصبية والثورات العلمية التي أحدثت تحولاً في هذا النوع من الجراحة، وصولاً إلى إحداث أول شعبة للجراحة العصبية في مشفى دمشق "المجتهد".
يبين الدكتور قطرميز في حديثه عن مراحل تطور الجراحة العصبية، أن الطبيب والعالم بوكرتس هو أول من وصف الرضوض الدماغية بشكلها الحقيقي وطور طريقة الوصول إلى معرفة إذا كان هناك كسر في الجمجمة من خلال وضع الحبر عليها. إذا ظهرت هناك خطوط سوداء، فهذا يعني أن فيها كسراً. أما في التاريخ العربي فقد كان أبو القاسم الزهرواي أول من طور ورسم صورة الأدوات الجراحية التي كانت تجرى في ذلك العصر، وعمل ابن سينا على وصف كسور الفقرات وخاصة التي تصاحب بشلل في بعض الأطراف، ونصح بوضع ثقوب في الجمجمة إذا كانت الإصابات شديدة. أما في عصر النهضة فقد تطورت علوم التشريح بشكل كبير، وكان المشرحون يلجؤون إلى بعض الرسامين لرسم ما يشاهدونه من أمراض. فعلى سبيل المثال هناك صور للرسام ليوناردو دافنشي وهو يشرح بالصورة طبقات السحايا المتعددة. أما في نهاية القرن التاسع عشر فقد تحدث الطبيب الجراح "هوب ستين" حول كيفية الوصول إلى الغدة النخامية عن طريق العمليات الجراحية، وهو الذي نصح بربط الشريان السباتي في حال وجود نزف دماغي.
ويعتبر الجراح الاسكتلندي "وليم ماكيوين" أبو الجراحة العصبية، وهو أول من طور تشخيص وعلاج أورام المخ، وأزال لأول مرة ورماً لفتاة بعمر الرابعة عشر. بينما يعتبر الجراح "بوكو" هو أول من وضع رسماً لمراكز الدماغ وصنع جهازاً ثلاثي الأبعاد يستطيع بواسطته التركيز ووضع أماكن المراكز الدماغية بدقة. وفي أمريكا يعتبر"كوشنيك" أبو الجراحة العصبية، وهو أول من تحدث عن الضغط داخل القحف، واستعمل جهاز التخدير الكهربائي للعمليات الجراحية، وهو الذي تحدث عن وظيفة الغدة النخامية وخفض نسبة الوفيات في العمليات الجراحية التي كانت تجرى قبله من إلى 10% بعد أن كانت نحو 90%.
ثورات الجراحة العصبية
وفقاً للدكتور حسن قطرميز فإن عام 1971 يعتبر الثورة الأولى في مجال الجراحة العصبية، إذ أصبح بإمكان الإنسان أن يرى ما يوجد داخل الدماغ عن طريق الصور الشعاعية التي تطورت بعد فترة قصيرة ليصبح لدى العلماء جهاز الرنين المغناطيسي. وفي عام 1990 كانت الثورة الثانية في مجال الجراحة العصبية، حيث استطاع الإنسان أن يصل عن طريق القثطرة إلى مناطق كان يصعب الوصول إليها. وجاءت الملونات الدماغية تتمة هامة لهذا الاختراع، إذ تعمل على إظهار مكان المرض بشكل جيد وخاصة الأورام الدماغية بعد رؤيتها بواسطة المجهر، وهناك الكثير من الأمثلة عنها.
ثلاثة من جراحي الأعصاب كانوا أشهر الذين استفادوا من كافة المعطيات المتعلقة بالجراحة العصبية، وهم: غازي ياسر ديب التركي الأصل، أسامة المفتي والذي يعتبر أحد مؤسسي الجراحة العصبية في قاعدة الدماغ وهو دمشقي المنشأ والولادة والتعليم الجامعي ويعمل في أمريكا، والتركي مجيد سامي الذي عمل لفترة طويلة في عمليات الأورام الدماغية، وله أبحاث جيدة عن جراحة الضفيرة العضدية.
حديث البدايات
قال الدكتور حسن قطرميز: بدأتُ في الجراحة العصبية عندما كنتُ طالباً في السنة الثالثة في كلية الطب بإسبانيا، حيث كنت أقضي الكثير من الساعات في شعبة الجراحة العصبية في الكلية. وبعد التخرج عام 1971 بقيت بنفس القسم كطبيب مقيم، وعندما أنهيت الاختصاص من جامعة فانيسيا الإسبانية سافرت إلى ألمانيا لمدة 6 سنوات وحصلت على اختصاص الجراحة العصبية. وفي عام 1982 عدت إلى سورية بعد غياب استمر لمدة 20 عاماً. بعد وصولي بقليل تعاقدت مع وزارة الصحة التي وجهت بإحداث جناح خاص للجراحة العصبية في مجمع ابن النفيس يكون على مستوى المراكز العصبية العالمية، إلا أن ذلك لم يتحقق في حينها. وقد وجهت للعمل في مشفى دمشق. وخلال عملي وفي إحدى الأمسيات الباردة اتصل مدير صحة دمشق وأحضروا لي أحد المرضى وكان بحاجة إلى دراسة شعاعية، ولكن لم يكن هناك أي معدات متوفرة في المشفى حيث كان الشيء الوحيد الموجود هو صورة بسيطة لجراحة الجمجمة. لكنني تمكنت من إجراء حقن شرياني سباتي للمريض والحصول على صورة لشريان الدماغ والتعرف على الورم الكبير الذي يعاني منه. ومن ثم أجريت له ذلك العمل باستخدام أدوات أمتلكها في منزلي كنت قد أحضرتها معي من ألمانيا. وفي اليوم التالي عُينت رئيساً لشعبة الجراحة العصبية في مشفى دمشق.
نواة للعناية المشددة
العمل في شعبة للجراحة العصبية في مشفى دمشق حينها كان يحتاج إلى ثلاث مقومات "المكان والكادر الطبي والتمريضي، الأدوات الجراحية"، ولم يكن كل ذلك موجود. وقد كان الطبيب قطرميز يجري تصوير الشرايين الدماغي للمريض بنفسه، ويقوم بحقن المادة الظليلية في القناة الشوكية. إلا أن مجرى الجراحة العصبية في المشفى تغير بعد حادث سير لطلبة جامعيين من كلية الهمك حيث انقلبت بهم السيارة وهم في طريقهم لإجراء التدريب الجامعي العسكري. ونقلوا إلى مشفى دمشق، وتم وضعهم في جناح خاص بالطابق الثاني كان قد تم تأسيسه وتجهيزه منذ مدة، ولكن لم يكن يستخدم للمرضى.
منذ ذلك الوقت وفور وصول الطلبة المصابين، تم وضعهم في هذا الجناح، وبدأت معالجتهم فيه، فكان ذلك الحادث النواة الأولى لشعبة العناية المشددة العصبية بعد تجهيزها بالحد الأدنى من الأدوات، وخصصت فيه غرفة للمعالجة الفيزيائية وأخرى كانت صالحة للاجتماعات. وبعد أن تطور هذا التخصص، كان هناك تعاقد مع أطباء مقيمين، وكانت النواة الأولى للجراحة العصبية في سورية.