تقاسم عالم كيمياء حيوية وعالمان حاسوبيان يستخدمان الذكاء الاصطناعي الجائزة الكبرى في الكيمياء، وكذلك الأمر في الفيزياء، حيث فاز اثنان من رواد الذكاء الاصطناعي بجائزة نوبل في الفيزياء.
بفضل عملهم في كشف أسرار اللبنات الأساسية للحياة المعروفة بالبروتينات، حصل ثلاثة علماء على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2024.
فاز ديفيد بيكر عن بحثه في فهم وفك شفرة بنية البروتينات. وفاز ديميس هاسابيس وجون جامبر عن عملهما في كيفية التنبؤ ببنية البروتين. وأعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم عن تقديرها لإنجازات الثلاثي في 9 أكتوبر في مؤتمر صحفي في ستوكهولم.
تُمكِّن البروتينات كل جانب من جوانب الحياة. بعضها عبارة عن أجسام مضادة تستهدف الميكروبات الخطيرة. وبعضها عبارة عن آلات جزيئية تعمل على إصلاح الحمض النووي التالف. وقائمة أدوارها في الجسم لا تنتهي تقريباً.
يتكون كل بروتين من سلسلة من الجزيئات تسمى الأحماض الأمينية. اطوِ السلسلة، وستحصل على بروتين.
ولكن كيف تطوى الخيوط هي المفتاح. يمكن أن تطوى الخيوط مثل المروحة الورقية. ويمكن أن تنحني إلى شكل حلزوني. ويمكن أن تتجعد مثل قطعة من الورق - أو تفعل شيئاً آخر تماماً. هناك عالم من الأشكال المحتملة. كل منها يعتمد على ترتيب الأحماض الأمينية في خيوطها.
ومثل شكل المفتاح الذي يحدد القفل الذي يمكنه فتحه، فإن شكل البروتين يؤثر على دوره في الجسم.
لفهم كيفية عمل البروتينات، تحتاج إلى معرفة شكلها. وهذا ما فعله الحائزون على جائزة نوبل هذا العام.
فك شفرة بنية البروتين
بيكر هو عالم كيمياء حيوية في جامعة واشنطن في سياتل. في عام 1998، كان جزءاً من فريق أطلق برنامج كمبيوتر يسمى روزيتا. يمكن أن يأخذ تسلسلاً قصيراً من الأحماض الأمينية ويتنبأ بمظهر البنية ثلاثية الأبعاد للبروتين الناتج.
ولكن القفزة الحقيقية جاءت في عام 2003. ففي ذلك الوقت قلب فريق بيكر هذه الفكرة رأساً على عقب. فقد رسموا مخططاً لبروتين ثلاثي الأبعاد ـ وهو بروتين غير موجود في الطبيعة ـ وطلبوا من روزيتا أن تبتكر سلسلة من الأحماض الأمينية التي قد تطوى على هذا الشكل. وقد نجح الأمر.
وعندما قام فريق بيكر بتركيب تسلسل الأحماض الأمينية في المختبر، انطوى على شكل بروتين يشبه تماماً البروتين الذي تنبأت به روزيتا. ومنذ ذلك الحين، ابتكر بيكر مجموعة من البروتينات المصممة. وتشمل هذه البروتينات بروتيناً يمنع فيروس كورونا المستجد.
إن ديفيد بيكر فتح عالماً جديداً تماماً من الهياكل البروتينية لم نشهده من قبل. يبدو الأمر وكأن خيالك فقط هو الذي يحدد الحد الأقصى لما يمكنك فعله.
طي البروتين
يعمل هاسابيس وجامبر في شركة ديب مايند التابعة لشركة غوغل في لندن بإنكلترا. وقد استخدم الثنائي مهارات الذكاء الاصطناعي لحل مشاكل بالغة الصعوبة. يمكن لأنموذج الذكاء الاصطناعي الخاص بالثنائي، المسمى ألفا فولد، التنبؤ بهياكل البروتين من تسلسلات الأحماض الأمينية بدقة تصل إلى 60 % تقريباً. وهذا يتجاوز بكثير أي شيء تم القيام به من قبل.
يعتمد أنموذج الذكاء الاصطناعي الذي ابتكره هاسابيس وجامبر على قاعدة بيانات من تسلسلات وهياكل البروتينات المعروفة. ويستخدم هذه البيانات لرسم خريطة للمسافة الفيزيائية المحتملة بين الأحماض الأمينية الفردية في سلسلة بروتينية معينة. ثم يحول الخريطة إلى بنية ثلاثية الأبعاد، وبدقة 90 في المائة. تسبب التنبؤ ببنية البروتين باستخدام ألفا فولد2 في ثورة كاملة في الكيمياء الحيوية البنيوية.
ولننتقل الآن إلى عالم الفيزياء حيث فاز اثنان من رواد الذكاء الاصطناعي بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024، فقد استخدم جون هوبفيلد وجيفري هينتون شبكات تشبه الدماغ لتسريع التعلم الآلي.
وفاز الاثنان "بفضل الاكتشافات والاختراعات الأساسية التي تمكن التعلم الآلي باستخدام الشبكات العصبية الاصطناعية"، كما تقول الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم في ستوكهولم. تسعى هذه الأدوات إلى محاكاة كيفية عمل الدماغ البشري. اليوم، تشكل هذه التقنية أساساً لأشياء مثل أنظمة التعرف على الصور، والروبوتات التي تلعب كرة القدم، ونماذج اللغة الكبيرة مثل ChatGPT والمزيد.
وقد فاجأت الجائزة الكثيرين. ترتبط تطورات الذكاء الاصطناعي هذه عادةً بعلوم الكمبيوتر أكثر من الفيزياء. لكن لجنة نوبل لاحظت أن أدوات الشبكات العصبية هذه تستند بوضوح إلى الفيزياء.
بعد أن علم أنه فاز بجائزة نوبل، سُئل جيفري هينتون عما إذا كان فيزيائياً أم عالم كمبيوتر. وكان رده: "أنا شخص لا يعرف حقاً المجال الذي أعمل فيه، ولكن... في محاولتي لفهم كيفية عمل الدماغ، ساعدت في إنشاء تقنية تعمل بشكل مدهش".
كما جعل هذا الاكتشاف العديد من التطورات في الفيزياء ممكنة، إذ حاول التوصل إلى تقنية كان لها تأثير أكبر على الفيزياء.
تقول ريبيكا ويليت: "كان العمل الذي قام به هوبفيلد وهينتون تحويلياً". وهي عالمة كمبيوتر في جامعة شيكاغو في إلينوي. وتضيف أن الأمر لا يؤثر على العلماء الذين يطورون الذكاء الاصطناعي فقط، بل يغير المجتمع.
ساعدت الشبكات العصبية العلماء في التعامل مع كميات كبيرة من البيانات المعقدة. وقد أدى هذا إلى العديد من الإنجازات المهمة. وتشمل هذه الإنجازات التقاط صور للثقوب السوداء وتصميم مكونات لبطاريات أفضل. كما حقق التعلم الآلي تقدماً كبيراً في مجال الطب الحيوي. فهو يعمل على تحسين التصوير الطبي. كما يساعد في فهم دور البروتينات بناءً على كيفية طيها في الجسم.
تبحث الشبكات العصبية عن الأنماط في البيانات. وهي تستند إلى شبكة من السمات الفردية تسمى العقد. وقد استوحيت هذه العقد من الخلايا العصبية الفردية في الدماغ. وتزويد هذه العقد بالبيانات يدرب الشبكة على إيجاد الأنماط. وتحدد هذه العملية نقاط القوة في الروابط بين العقد. وبهذه الطريقة، تتعلم الشبكة استخلاص استنتاجات دقيقة.
يعمل هوبفيلد في جامعة برينستون في نيوجيرسي. وفي عام 1982، أنشأ نوعاً مبكراً من الشبكات العصبية. المسماة شبكة هوبفيلد، ويمكنها تخزين وإعادة بناء الأنماط في البيانات. وتعتمد هذه الشبكة على مفهوم يشبه المجالات المغناطيسية الصغيرة في المواد المغناطيسية. تحتوي الذرات في هذه المواد على مجالات مغناطيسية يمكن أن تشير إلى الأعلى أو الأسفل.
بالنسبة إلى أي نمط معين من الذرات في مادة ما، يمكن للعلماء تحديد طاقتها. ويمكن وصف شبكة هوبفيلد بـ "طاقة" مماثلة. تعمل شبكة هوبفيلد على تقليل تلك الطاقة. وبهذه الطريقة، يمكنها العثور على الأنماط المختبئة في تلك البيانات التي أدخلت إليها.
بنى هينتون، الذي يعمل في جامعة تورنتو في كندا، على هذه التقنية. فقد طور شبكة عصبية تسمى آلة بولتزمان. وهي تستند إلى الفيزياء الإحصائية (بما في ذلك عمل الفيزيائي لودفيغ بولتزمان في القرن التاسع عشر). تحتوي آلات بولتزمان على بعض العقد المخفية. وهي العقد التي لا تتلقى المدخلات بشكل مباشر. فهي تأخذ البيانات من العقد الأخرى وتساعد في معالجتها.
تختلف احتمالات ظهور الحالات المحتملة المختلفة للشبكة. يتم تحديد هذه الاحتمالات من خلال ما يسمى بتوزيع بولتزمان. وهو يصف خصائص العديد من الجسيمات (مثل الجزيئات في حجم الغاز).
منذ ثمانينيات القرن العشرين، عمل الباحثون على تحسين تقنيات الذكاء الاصطناعي هذه بشكل كبير. كما أصبحت أنظمة الذكاء الاصطناعي أكثر تعقيداً. تحتوي نماذج التعلم العميق الآن على العديد من طبقات العقد المخفية. يتباهى البعض بمئات المليارات من الاتصالات بين العقد.
يخشى بعض العلماء، بمن فيهم هينتون، أيضاً من أن الذكاء الاصطناعي قد يصبح ذكياً للغاية.
لكن علماء آخرين يتحدون فكرة أن الذكاء الاصطناعي في طريقه إلى الهيمنة على العالم. لقد ارتكبت العديد من نماذج الذكاء الاصطناعي أخطاء سخيفة تتحدى الفطرة السليمة.
ومع ذلك، هناك خطر حقيقي يتمثل في أن الذكاء الاصطناعي يجعل الناس عاطلين عن العمل وينشر معلومات مضللة. وتقول ويليت: "أعتقد أن هذه المخاوف حقيقية للغاية في الوقت الحاضر، وذلك لأن البشر قد يأخذون هذه الأدوات ويستخدمونها لأغراض خبيثة".
وانطلاقاً من هذه المخاوف، كانت المفاجأة الكبرى في أن يحظى الذكاء الاصطناعي بجائزة نوبل في مجالي الكيمياء والفيزياء.
----