يتحدث الكتاب عن أسلوب يوجد طبيعياً، وهو طريقة في التفكير والتصرف والتواصل تمنح بعض القادة القدرة على إلهام من حولهم بحيث يصبح، وبقليل من الانضباط، في إمكان أي قائد أو مؤسسة أن يلهموا الآخرين داخل المؤسسة ثم خارجها، بغرض المساعدة في تحسين أفكارهم ورؤاهم.

إن سلوكنا يتأثر بافتراضاتنا أو بالحقائق المتصوَّرة، فنحن حين نتخذ قراراً ما، فإننا نتخذه استناداً إلى ما نعتقد أننا نعلمه. ولم يمر وقت طويل منذ أن كان معظم البشر يؤمنون بأن الأرض مسطحة؛ هذه الحقيقة المتصوّرة التي أثّرت في سلوكهم، فكان الاستكشاف خلال تلك الحقبة ضئيلاً جداً، ذلك أن الناس كانوا يخشون إن ابتعدوا في ترحالهم أن يؤول الأمر بهم إلى السقوط عن حافة الأرض، لذلك لم يبرح القسط الأكبر منهم مكانه، ولولا أن تم اكتشاف ذاك التفصيل الدقيق الذي أفضى إلى أن الأرض كروية، لما تغير ذلك السلوك على نطاق هائل، ولما بدأت بفعل هذا الاكتشاف المجتمعات البشرية تجوب الكوكب، وتنشئ الطرق التجارية، وتتبادل الأفكار الجديدة، الأمر الذي أطلق العنان لكل أنواع الابتكارات والتطورات، وأثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن تصحيح ذاك الافتراض الخاطئ المتعلق بشكل الأرض دفع الجنس البشري قُدماً نحو الأمام.

والآن إن أجلنا النظر في الكيفية التي تأسست إثرها المؤسسات الكبيرة في العالم، والآليات التي ترتكز عليها عند اتخاذها لقراراتها. هل سنعلم حقاً لمَ تنجح بعض المؤسسات في حين تفشل أخرى، أم إننا سنفترض وحسب؟؟

الكتاب الذي بين أيدينا اليوم، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن "المشروع الوطني للترجمة"، والذي يحمل عنوان (ابدأ بـ "لماذا"... كيف يحفز القادة العظماء الجميع على العمل؟)، وهو من تأليف: سايمون سينك، وترجمة: علاء العطّار، يتحدث عن أسلوب يوجد طبيعياً، وهو طريقة في التفكير والتصرف والتواصل تمنح بعض القادة القدرة على إلهام من حولهم بحيث يصبح، وبقليل من الانضباط، في إمكان أي قائد أو مؤسسة أن يلهموا الآخرين داخل المؤسسة ثم خارجها، بغرض المساعدة في تحسين أفكارهم ورؤاهم.

فغاية هذا الكتاب لا تتمحور حول إصلاح ما لا يجدي نفعاً، بل لصبِّ التركيز على ما ينفع، أي وكما يقول مؤلف هذا الكتاب في مقدمته: "ولست أهدف من تأليفي هذا الكتاب إلى الحط من قدر الحلول التي طرحها آخرون، فمعظم الإجابات التي نحصل عليها صحيحة تماماً عندما تستند إلى أدلة سليمة. ولكن إذا بدأنا بطرح الأسئلة الخاطئة ستقودنا إجاباتها في النهاية إلى المسار الخاطئ، ولو كانت صحيحة. والقصص التالية في هذا الكتاب تدور حول أولئك الأفراد والشركات التي تجسد هذا الأسلوب بشكل فطري؛ إنهم من بدأبـ (لماذا)".

المناورة أم الإلهام؟

يقع هذا الكتاب في ستة فصول يتناول المؤلف في أولها الحديث عن المناورة والإلهام مبيناً أن هناك طريقتين لا ثالث لهما للتأثير في السلوك البشري، إما المناورة، وإما الإلهام. وأن المناورة موجودة انطلاقاً من قطاع الأعمال، وصولاً إلى السياسة، ومروراً بأشكال المبيع والتسويق جميعها، وهي تنسحب على أنواع أنموذجية عدة، منها: تخفيض الأسعار، وإطلاق حملات الترويج، والابتكارات الواعدة للتأثير في السلوك سواء أكان سلوك شراء، أم تصويت، أم دعم، وسوى ذلك الكثير...

ويتابع المؤلف حديثه عن مفهوم المناورة موضحاً أن خطورتها تكمن في أنها تنجح في تحقيق النتائج المنشودة، لذا أصبحت بفعل ذلك هي الأنموذج السائد الذي يتخذه الغالبية الساحقة من الشركات والمؤسسات، بصرف النظر عن حجمها وقطاع صناعتها، بيد أنها حينما تصبح هي المسار الرئيس للعمل فإن الانهيار هو النتيجة المنطقية الوحيدة.

وينتقل المؤلف في الفصول اللاحقة إلى عرض البديل الموجود عن نموذج المناورة، والذي يطلق عليه اسم (الحلقة الذهبية)، وهو نمط فطري يتّبعه بعض القادة لإلهام الناس، سواء أكانوا مدركين له أم لا، وهو يتألف من ثلاثة أسئلة، هي: لماذا، كيف، ماذا.

الحلقة الذهبية

ويتابع المؤلف في تعريفه لمفهوم (الحلقة الذهبية) بأنه مفهوم استُمد من النسبة الذهبية وهي علاقة رياضية بسيطة أسرت عقول علماء الرياضيات والأحياء والمهندسين المعماريين والفنانين والموسيقيين منذ بدء التاريخ. فالحلقة الذهبية هو نظام موجود في سلوك الإنسان يمكّنه من التنبؤ، إذ تقدم هذه الحلقة أدلة دامغة على مقدار ما يمكن تحقيقه لو ذكّر الإنسان نفسه أن يبدأ كل شيء يقوم به بـ (لماذا).

كما أنها تعدّ منظوراً بديلاً للافتراضات الحالية بشأن السبب الذي جعل بعض القادة والمؤسسات يحققون درجة هائلة من التأثير، وإلهام الناس للعمل دون اللجوء إلى المناورة والتلاعب لحثهم على القيام بذلك، الأمر الذي يمكن استخدامه كدليل لتحسين القيادة وثقافة الشركات، والتوظيف وتطوير المنتجات، والمبيعات والتسويق، حتى إنه يفسر طريقة خلق زخم كافٍ لتحويل الفكرة إلى حركة اجتماعية؛ وكل ذلك يبدأ من الداخل إلى الخارج، يبدأ بـ (لماذا).

وفي معرض حديثه عن مفهوم الحلقة الذهبية لا يُغفل المؤلف في كتابه الحديث عن مؤشر الثقة التي لا تنشأ ببساطة لأن البائع يقدم حجة عقلانية توضح للزبون لماذا عليه شراء منتجه، بل لأنها تأتي مترافقة مع شعور بالقيمة، القيمة الحقيقية، وليس مجرد القيمة المكافئة للمال المدفوع.

فالقيمة في تعريفها هي نقل للثقة، ولا يمكنك إقناع أحدهم بأن لديك قيمة، بل عليك أن تكسب ثقته عبر التواصل، وإثبات أنك تشاركه القيم والمعتقدات ذاتها. أي عليك أن تتحدث عن غايتك (لماذا)، وتثبتها بما تفعله (ماذا)، والطرائق (كيف) هي الإجراءات المتخذة لتحقيق ذلك الإيمان. وعليه وحينما تتوازن هذه المستويات الثلاثة تنشأ الثقة، وينشأ معها الشعور بالقيمة.

الحيوية، أم سحر الشخصية؟

ويعرج المؤلف في فصوله الأخيرة إلى الحديث عن الحيوية ودورها في تحفيز الجماهير، إذ يؤكد أن لها دوراً فعّالاً في تحفيزهم، لكن سحر الشخصية يُلهمهم. ويبين أن القادة العظماء جميعهم امتلكوا شخصية ساحرة لأن لديهم فهماً واضحاً لـ (لماذا)، ولديهم إيمان راسخ في هدف أو قضية أسمى من ذواتهم، ويسوق مثالاً على ذلك "بيل غيتس" الذي لا يُلهمنا شغفه بأجهزة الحاسب فقط، بل تفاؤله بأن حل المشكلات ممكن مهما بلغ تعقيدها. وعليه فإن للحيوية دوراً في إثارة الحماس،غير أن سحر الشخصية وحده هو الذي يُلهم الناس.

وفي الختام يمكننا القول بأن هذا الكتاب يقدم رؤية جديدة حول تنظيم عمل المؤسسات، وبناء آليات تفكيرها، وذلك عبر طرح مفهوم جديد يندرج تحت مسمى (الحلقة الذهبية) التي لا يمكن عدّها مجرد أداة تواصل فحسب، بل إنها توفر بعض الفطنة في كيفية تنظيم عمل المؤسسات العظيمة.

يقع هذا الكتاب في 326 صفحة من القطع الكبير.

----

-الكتاب: ابدأ بـ "لماذا"... كيف يحفز القادة العظماء الجميع على العمل؟

-المؤلف: سايمون سينك

-ترجمة: علاء العطّار

-الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2021.