يعتبره كثير من المفكرين أبا الوجودية، رغم أنه لم يصغها كمنهج متماسك كما فعل سارتر. وتأثر به كثير من الأدباء والمفكرين من مثل: هيرمان هسه، نيتشه، وغيرهما.

لم يعش كيركجارد طويلاً، ولكنه استطاع أن يقدم فكراً فريداً في عصره، واستمر مثيراً للجدل بعد وفاته، وصولاً إلى أيامنا هذه. هو الذي قال يوماً: "أنا أشبه ما أكون بسفينة تحمل محركاً أقوى من بنيتها بكثير"؛ إذ لم يكن جسده قادراً على تحمل روحه العاصفة وعقله الناري.

وبعد ما يزيد عن قرنين على ولادته، لا يزال حضوره قوياً، كفيلسوف وكشاعر وكلاهوتي وكناقد اجتماعي. إن لفكر وفلسفة كيركجارد "أهمية معاصرة، خصوصاً وأن التطورات العلمية اللاحقة في القرن العشرين وقرننا الحالي، قوضت كثيراً من صورة العقل والعلم، كما فهمت في القرن التاسع عشر".

كيركجارد

انضباط سوداوية

في كوبنهاغن ولد سورين كيركجارد عام 1813، وكان الابن السابع لميكيل بيدرسن كيركجارد، النسّاج المتقاعد "الذي حرر من الرقّ في شبابه، وأصبح بعدها ثرياً نسبياً بوساطة جهوده الشخصية، وأيضاً جراء حصوله على إرث جيد من أحد أعمامه". وهذا الوالد كان عضواً متفانياً في الكنيسة اللوثرية، وذا إيمان قوي بالواجب وبالانضباط الذاتي، إضافة إلى أنه كان يعتقد أنه وعائلته واقعون تحت تأثير لعنة غامضة أسدلت كآبة وسوداوية على الأسرة وعلى الفتى سورين بشكل خاص.

كتب سورين لاحقاً عن هذا: "الرهبة التي ملأ بها أبي روحي، سوداويته المخيفة، وكل الأشياء المماثلة التي لم أدونها حتى".

التعليم

في السابعة عشرة من عمره، أصبح طالباً في جامعة كوبنهاغن، وباشر الدراسة لنيل شهادة في اللاهوت، متبعاً خطى أخيه بيتر. ولكنه فقد اندفاعه تدريجياً، لشعوره بالفراغ الوجودي وعجزه عن العثور على مركز لحياته. يقول: "ما الخير الذي سيعود عليّ إذا وقفت الحقيقة أمامي، باردة وعارية، غير عابئة ما إذا كنت أتعرف عليها أم لا؟".

انكب على دراسة الفلسفة والأدب عوضاً عن اللاهوت، ولكنه وجد نفسه مجرد مراقب ومتفرج أكثر من كونه فاعلاً، شاعراً بالفشل في تحقيق أي شيء لحسابه الخاص. ثم تابع الدراسة ونال شهادة في اللاهوت عام 1840.

ريجين أولسن

كانت علاقته بخطيبته ريجين أولسن مضطربة، ولعبت دوراً هاماً في تطوره اللاحق ونتاجه الفكري والأدبي. أنهى علاقته بها، مبرراً ذلك بأنه غير قادر على جعلها فتاة سعيدة. ورغم جهودها لإعادة العلاقة، إلا أنه أظهر لامبالاة وعدم اهتمام، متوقعاً – كما قال – أن هذا هو الشيء الوحيد الذي استطاع فعله لدفعها إلى الزواج من شخص آخر.

اعترف بأن فسخ الخطوبة سبب له معاناة داخلية شديدة، وعرض عدة أسباب لهذا التصرف، منها أنه سوداوي ومتناقش وغير قادر على الانخراط في علاقة كثيرة التطلب.

نتاج

نشر كتابه الأول "من أوراق إنسان ما زال حياً" عام 1840، وفي العام نفسه نال شهادة في اللاهوت. وبعد ثلاثة أعوام نشر عمله الفلسفي الأول "إما/ أو" وبعده بثمانية أشهر نشر "تكرار" و"الخوف والارتجاف"، و"شذرات فلسفية"، و"مفهوم القلق"، و"مراحل على طريق الحياة"، و"حاشية ختامية غير علمية". وقد وقّع هذه الأعمال الفلسفية جميعها بأسماء مستعارة. ونشر أيضاً باسمه الصريح ثمانية عشر خطاباً تنويرياً اتسمت جميعها بأنها ذات طبيعة دينية واضحة.

إن أعمالاً مثل "مراجعة أدبية" "وخطابات تهذيبية في حالات الحب المعذبة وأفعاله المتنوعة" و"خطابات مسيحية"، كانت في مجال الإيمان والشعائر الدينية، وهي أعمال مهدت الطريق لاثنين من أعماله الرئيسة: "المرض حتى الموت 1849، وهو دراسة في علم الأمراض الروحي، و"التدريب على المسيحية" 1850 وهو يشرح التناقض الحاد بين المشهد الذي يتطلبه الإيمان من المؤمن، والبدائل الزائفة والمنتشرة باسم الإيمان على نطاق واسع.

وجودية

ميز كيركجارد ثلاث صيغ أو مجالات أساسية من الوجود، هي: الجمالي والأخلاقي والديني. ويظهر التناقض بين الجمالي والأخلاقي أكثر جلاء في مؤلفه "إما/ أو"، وبين الأخلاقي والديني في "الخوف والارتجاف".

(إما/ أو) هو مؤلف يقدم وجهتي النظر الجمالية والأخلاقية بشكل مجموعات محررة من الأوراق والرسائل، تمتد من الأقوال المأثورة المشتتة والملاحظات الشخصية، إلى مناقشة تأملية للأوبرا التراجيدية (أنتيغوني) وصولاً إلى مقطوعة موتزارت الإيروتيكية (دون جيوفاني)، ومعالجة غوته لخرافة "فاوست". إن الجمالية، كما فهمت في حس كيركجارد الغزير، بوسعها اتخاذ مظاهر مختلفة من تبدي نفسها في مستويات مختلفة من الرقي والوعي بالذات، وتتشعب باتجاهات مختلفة فيما وراء مجرد ملاحقة اللذة لأجل اللذة.

يرى كيركجارد أن الشخص الذي يعيش بصورة جمالية، ليس شخصاً مسيطراً سواء على نفسه أو على أوضاعه. فهو يعيش دونما خطة، وينزع إلى العيش من أجل اللحظة، فمهما كانت اللحظة العابرة، فإنها ستجلب معها اللذة، الإثارة والاهتمام.

وبخلاف الشخص الجمالي المنشغل باستمرار بما هو خارجي، يكون انتباه الشخص الأخلاقي موجهاً صوب طبيعته الخاصة، حقيقته الجوهرية ككائن بشري يمتلك مواهب وميولاً وعواطف، وهذا ما يكمن بثبات في قلب قدرته على التنظيم والسيطرة والتثقف.

رغم بعض الغموض في كتابات كيركجارد، إلا أنه لا يمكن إلا أن نعترف بتأثيره في مجال نظرية الأخلاق وفي الفكر الديني معاً، وتأثيره الكبير على طيف واسع من الأدباء والمفكرين في القرن العشرين وإلى يومنا هذا.

----

الكتاب:كيركجارد، فيلسوف الإيمان في زمن العقل

الكاتب:باترك غاردنر

ترجمة:نصير فليح

الناشر:دار نينوى للدراسات، دمشق، 2018