حاول الغرب أن يزيّن توسعه عبر التبرير الأخلاقي بأن التوسع نافع لكل تلك الأمم التي تخضع لسيطرته. ولكن القيم التي حاول إشاعتها لنشر ثقافته على أنها أنوار الغرب، قد دُحضت بشكل فعلي. فقد سببت الكولونيالية معاناة إنسانية هائلة، وكانت مدمرة بشكل فريد بالنسبة إلى الثقافات المحلية.

يقوم الاستعمار على العنف متعدد الأشكال. وفي المقابل، فإن الماكينة الإعلامية للاستعمار، تعمل على تشريع فكرة التفوق الغربي على شعوب العالم الأخرى. وفكرة التفوق هذه بررت للجيوش المستعمِرة بأن تبيد السكان الأصليين بدم بارد. يقول الكاتب روبرت يونغ في كتابه هذا "ما بعد الكولونيالية": "عندما وضع البرتغاليون أقدامهم في البرازيل، كان ثمة خمسة ملايين نسمة من السكان الأصليين. عندما أدخل الغزاة المرض والاسترقاق والعنف، مُسخ السكان الأصليون بشكل فعلي". ولا تزال الشعوب الأصلية في البرازيل تواجه الطرد من أرضها والعنف والمرض على أيدي قاطعي الأشجار والمستوطنين والمنقبين عن الذهب ورجال الأعمال الأقوياء.

لم يكتفِ المحتلان الإسباني والبرتغالي للأمازون، بقتل وجَلد السكان الأصليين، ولا بربطهم بالسلاسل وحرق منازلهم واغتصاب نسائهم وسوق أولادهم بعيداً إلى الاسترقاق والانتهاك فحسب، بل يقوم الإسبان بأبشع أنواع الفظائع والمجازر والعبودية المرعبة.

الالتهام من الداخل

في زمن الحرب العالمية الأولى، احتلت القوى الإمبراطورية، أو سيطرت بوسائل مختلفة، على تسعة أعشار الكوكب، فحكمت بريطانيا خُمس مساحة العالم وربع عدد سكانه. لاحظ لينين عام 1916، بأن العالم يقسم بالكامل، بحيث أنه في المستقبل تكون إعادة التقسيم فقط هي الممكنة. تحولت الإمبراطوريات غير المشبعة نحو الداخل، وحاولت أن تلتهم بعضها بعضاً. حاولت ألمانيا لاحقاً أن تحول أوروبا نفسها إلى إمبراطوريتها الاستعمارية في فعل هائل من أفعال الكولونيالية التهجيرية التي تم تحويلها إلى أيديولوجيا المجال الحيوي.

كانت كلفة التحرير أو الانتصار على ألمانيا، هي التفكيك التدريجي للإمبراطوريات الاستعمارية. فقدت إيطاليا المهزومة كل مستعمراتها. خاضت اليابان حرب منافسة إمبريالية مع القوى الاستعمارية الأوروبية، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية، على جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ، وقد جُردت من ممتلكاتها الأرضية فيما وراء البحار.

أصبحت الولايات المتحدة سريعاً قوة استعمارية، آخر قوة استعمارية، تستمر في السيطرة على أراض تمّ ضمها من دون الرجوع إلى رغبات ساكنيها الأصليين، مثل هاواي. وأخذت أثناء الحروب كلاً من: كاليفورنيا، تكساس، أوتاه، نيفادا، ومعظم أريزونا، ونيو مكسيك، وجزءاً من كولورادو ويومينغ، وبورتوريكو وغرام. واشترت لويزيانا من فرنسا، وفلوريدا من إسبانيا، وآلاسكا من الإمبراطورية الروسية.

يقول يونغ: "إذا كان التاريخ الاستعماري، خصوصاً في القرن التاسع عشر، هو تاريخ الاستيلاء الإمبراطوري على العالم، فإن تاريخ القرن العشرين قد شهد استعادة شعوب العالم للسلطة والسيطرة لنفسها. فالنظرية ما بعد الاستعمارية ذاتها هي نتاج لتلك السيرورة الديالكتيكية".

إن النقد ما بعد الاستعماري يوحده إجماع سياسي وأخلاقي مشترك إزاء تاريخ الكولونيالية الغربية وتركتها. وإن السيطرة الحديثة على العالم من قبل الغرب، يمكن النظر إليها بوصفها – بالدرجة الأولى – مظهراً من مظاهر تحول العالم بواسطة التكنولوجيا الجديدة والاقتصاد والعلم الذي يحدث بسبب الطبيعة المتفاوتة لانتشاره. إنه يولد اختلال توازن مؤقت وغير مستقر للقوة.

ضد الأخلاق

حاول الغرب أن يزيّن توسعه عبر التبرير الأخلاقي بأن التوسع نافع لكل تلك الأمم التي تخضع لسيطرته. ولكن القيم التي حاول إشاعتها لنشر ثقافته على أنها أنوار الغرب، قد دُحضت بشكل فعلي. فقد سببت الكولونيالية معاناة إنسانية هائلة، وكانت مدمرة بشكل فريد بالنسبة إلى الثقافات المحلية.

إن فرضية الدراسات ما بعد الكولونيالية، هي أن كثيراً من الأخطاء والجرائم ضد الإنسانية، هي نتاج للهيمنة الاقتصادية للشمال على الجنوب.

ويبقى النقد ما بعد الكولونيالي مستنداً بشكل أساس على الماركسية. فقد كانت الماركسية وحدها التي شددت على تأثيرات المنظومة الإمبريالية وبنية القدرة المهيمنة، وفي رسم معالم لأجل مستقبل خال من السيطرة والاستغلال. لقد كانت الماركسية، التي تمثل شكلاً من السياسة الثورية وإحدى أغنى وأعقد الحركات النظرية والفلسفية في التاريخ البشري، مناهضة للغرب على الدوام، مذ تم تطويرها من قبل ماركس كنقد للممارسات الاقتصادية والاجتماعية الغربية وللقيم التي جسدتها. إن الماركسية هي سياسة ومنهج تفكير أخلاقي في مواجهة لاأخلاقية الغرب.

إن اضطهاد المستعمِر، لا يتوقف عند السكان الأصليين للبلد المحتل "فالاضطهادات المرتكبة من قِبل الأنظمة الاستعمارية على الشعوب المستعمِرة، كانت قاسية ووحشية، لكنها ليست أكثر قسوة ووحشية من ذبح ملايين الجنود الأوروبيين المجندين إلزامياً – الإفناء الجماعي للبروليتاريا الأوروبية، كما لاحظت روزا لوكسمبورغ- بالإضافة إلى الجنود الاستعماريين المجندين من أفريقيا والهند، بأمر من الطبقات الحاكمة الأوروبية أثناء الحرب العالمية الأولى دعماً لمصالحها".

إذاً، لا فرق لدى الاستعمار ما مواطن البلد والأجنبي، كليهما ينسحقان تحت عجلات الجشع الإمبريالي، ويدخلان في صفقة الربح والثراء. وما البيانات التي ترفعها الدول الاستعمارية والدراسات الكاذبة، سوى إعلام منافق وتبرير هدفه حشد أكبر عدد من القتلى المستقبليين للحصول على رأس المال المستهدف.

الترحيل القسري

لم يكن الاستعمار يدل على حكم الشعوب المحلية، أو استخراج ثرواتها فحسب، بل بالدرجة الأولى على ترحيل الجماعات التي كانت تسعى إلى الحفاظ على ولائها لثقافتها الأصلية الخاصة. وقد عرف روبك في عام 1849 المستعمرة بأنها "أرض بدون شعب أصلي، كان سكانها ينظرون إلى إنكلترا بوصفها البلد الأم". وفيما بعد سعى المستعمرون إلى الاحتفاظ بتمييز بين المستعمرين والسكان الأصلانيين، بدلاً من الاندماج مع السكان المحليين، كما حدث عموماً مع الهجرات الأقدم أو مع الاستعمار المبكر لأمريكا البرتغالية وبعض أمريكا الإسبانية، التي تطور فيها الاستعمار إلى مجتمع مختلط.

وفضّل المستعمرون الإسبان والأنغلوسكسون لأمريكا وأستراليا وآسيا أن يجربوا إبادة الناس الأصليين بدلاً من حكمهم. وهذا الموقف استمر بعد الاستقلال، كما حدث في الولايات المتحدة والأرجنتين. وإذا لم يكن يتم إبادة السكان الأصليين، كان يتم إخراجهم من الأرض التي كانوا يسكنونها سابقاً. وهي سيرورة حدثت أيضاً في المستعمرات الاستيطانية في أفريقيا، كروديسيا وكينيا وجنوب أفريقيا. ولذلك كان الاستيلاء على الأرض والفضاء يعني أن الكولونيالية، كما أكد إدوارد سعيد، هي أساساً فعل عنف جغرافي، عنف جغرافي استخدم ضد الشعوب الأصلية وحقوقها في الأرض.

العرقية

كانت فكرة الإمبريالية ومفهوم رسالة التحضر، تفترضان مسبقاً التفوق العرقي، لأن الاختلاف الأساسي بين الحضارة والهمجية الذي يبرر رسالة التحضر ويتطلبها، قد افترض تمايزاً أساسياً بين العرق الأبيض، والأعراق اللابيضاء، وتم ذلك بمصطلحات إطلاقية وتحقيرية بشكل متزايد. وقد كان النظام البريطاني يقوم على الافتراض العنصري، بأن الأصلاني غير قادر على الوصول في التعليم إلى مستوى الأوروبي، ولذلك فهو يحتاج ضمناً إلى الحكم الاستعماري الدائم.

إن مفهوم المساواة الطبيعية المطروح في القرن الثامن عشر، توسّع نظرياً من أجل الأعراق كلها. وفي هذا السياق أطلق روبسبير بيانه الشهير: "دعوا المستعمرات تهلك، إذا كان يجب أن تكلفكم شرفكم، مجدكم، حريتكم". ولكن هذا البيان العالمي الإنساني، لم يكن محبذاً لدى النخب السياسية والفكرية، إلى حد أن القول الفصل بأن كل البشر خلقوا متساوين، كان يشير إلى البشر البيض فقط، كما حصل في الولايات المتحدة.

خاتمة

يتميز هذا الكتاب بأنه من بين أشمل الكتب التي تناولت ما بعد الكولونيالية. وقد تطرق فيه المؤلف إلى الكتب التي سبقته، ووسع مفهوم ما بعد الكولونيالية، وأشار إلى الدراسات الضخمة التي تناولت هذا المفهوم. ونختم برأي جاك دريدا في الكتاب وفي الكاتب: "مثل كل ما يصدر عنك، يدهشني كل ما كتبته عن "ما بعد الكولونيالية"، إذ أرى فيه الإسهاب والغنى وحذاقة الفكر.. إنه مرجع فيما يخص هذه المسائل الملحة وشديدة الخطورة".