وصلت الثورة الرقمية إلى حدّ أن تكون جرائم إلكترونية، تماثل إلى حدّ ما الجرائم الواقعية، ولذلك فإن قراءة جديدة للواقع يجب أن تنتج أفكاراً جديدة، وأخلاقيات تناسب العصر الرقمي.

أهمّ ما يميز الثورة الرقمية، هو التراكمات الهائلة في أنظمة توليد المعلومات والمعرفة وتخزينها، وتعدد أنماط التواصل والتفاعل ضمن فضاءات إلكترونية جديدة، لكن هذه التحولات الكبيرة نتج عنها الكثير من التجاوزات غير المعتادة، بل وصلت إلى حدّ أن تكون جرائم إلكترونية، تماثل إلى حدّ ما الجرائم الواقعية، وفي بعض الأحيان تخطت في تأثيراتها الحدود الإلكترونية إلى أرض الواقع. والحقيقة إن شبكات ومواقع التواصل الاجتماعي عبر تطبيقاتها المختلفة، تعتبر الفضاء الخصب لوقوع مثل هذه الجرائم، بما تشمله من اختراق وانتهاك للخصوصية والاعتداء الثقافي والاجتماعي على المستخدمين، بشكل يستهدف هوية المجتمعات وانسجامها.

وظهور المجتمع الرقمي الذي نتج عن شبكات التواصل الاجتماعي وضعف عوامل الرقابة والمتابعة، أدّى إلى خلق ظواهر جديدة غير مسبوقة كمجهولي الهوية، والمتخفين وراء أسماء وهمية، وغيرها من الظواهر التي أدت إلى ظهور السلوك الإجرامي؛ حيث تعتبر الجريمة المنظمة والعابرة للحدود من أهم مخاطر هذه التكنولوجيا على البناء الأخلاقي والتربوي للمجتمع، وبالتالي تهدد مجالات وقطاعات سياسية واقتصادية وتعليمية، مع غياب أي رادع لها في ظل عدم القدرة على السيطرة والتحكم في تضاريس الفضاءات الإلكترونية، لذلك كان لا بدّ من ضبط سلوكيات المستخدم الرقمي في تعامله مع التقنيات الحديثة.

هابرماس1

ترى الباحثة "أسماء ملكاوي" أنه كلما زادت تقانة التواصل والاتصال تقدماً، زادت حدة الخلافات والصراعات بين الجماعات والشعوب والأمم. ومن ناحية أخرى في سياق البحث عن وظيفة جديدة تقوم بها فلسفة التواصل في عصر يشهد تحولات هائلة في وسائل التواصل والاتصال الإنساني، فتتعامل مع ما نتج من هذا التحول من أثر في إدراكنا مجموعة من المفاهيم التي تشكل وجودنا. وقد تناولت "ملكاوي" في كتابها (أخلاقيات التواصل في العصر الرقمي "هبرماس" أنموذجاً)، موقفاً لا بدّ للفلسفة التواصلية من أن تتخذه، باعتباره معطى من معطيات العصر الرقمي الجديد، كما تحدثت عن ضرورة ارتباط النظرية بالتطبيق في الواقع العملي، وعن الإمكانات التطبيقية لنظرية الفعل التواصلي عند "هبرماس". وقد تناولت الباحثة في الفصل الثالث من كتابها موضوع أخلاقيات التواصل، الأسس النظرية والمفاهيم المركزية، الإطار الفكري الذي أفرز نظرية "هبرماس" في أخلاقيات التواصل أو أخلاقيات الحوار والنقاش، والخوض في معالمها وتفضيلاتها، بمعاينة مراحل تطور النظرية النقدية التواصلية منذ الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، التي تعتبر من أهم الخلفيات الفكرية التي شكلت رؤية "هبرماس" فيما بعد. كما تعرضت لأبرز الأدبيات السابقة التي تحدثت عن هذه النظرية وإمكاناتها التطبيقية بدءاً من محاولات "هبرماس" ذاته، ومن ثم محاولات أخرى في ميادين معرفية منوعة، وأخيراً في مجال تقانة التواصل الرقمي.

ويعدّ مجال أخلاقيات تكنولوجيا المعلومات موضوعاً جديداً في العلوم الاجتماعية والإنسانية، حيث إن الكثير من القضايا الناشئة عن هذا المجال لم تكن معروفة سابقاً، والإشكالية تكمن في طبيعة التعامل مع هذه القضايا الأخلاقية بسبب اتباع الطريقة والمنهج ذاته في دراستها وتحليلها، والمتبع في معظم القضايا الاجتماعية من خلال توضيح الآثار الاجتماعية لتكنولوجيا المعلومات المختلفة، ومن ثم تطبيق النظريات الأخلاقية على تلك الآثار وما ينتج عنها.

إن التطور المتسارع والمستمر في تكنولوجيا المعلومات وثورتها، وتجدد المواضيع الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية والتربوية، دفع الباحثين والفلاسفة إلى إطلاق مشروع جديد (فلسفة المعلومات)، لا سيما بعد أن أصبح استخدام الوسائل التكنولوجية لا يقتصر على المختصين بل انتشر في جميع المجتمعات وبين مختلف الثقافات والفئات العمرية. ففي بداية ثمانينيات القرن الماضي، برز الحديث عن الانتقال من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات، أما في التسعينيات فقد بدأ الحديث عن المعرفة في المجتمعات، وبدأ الناس يدركون أن المعلومات لوحدها لا يمكنها إحداث تغيير مهم، وتحول الاتجاه نحو معالجة البيانات وتحويل المعلومات وإدارتها في تشكيل تلك المعرفة. ثم جاء تطور أجهزة الحاسوب وشبكات الاتصال الذي أحدث تغييراً هائلاً في جميع مناحي الحياة المعاصرة، حتى سمي العصر الذي نعيش فيه بالعصر الرقمي، حيث دخلت عمليات الحوسبة في المهام والوظائف المتنوعة للأفراد والحكومات، وشملت مختلف المجالات، وهذا أوجد الضرورة الملحة للاهتمام بالأخلاقيات الجديدة (الأخلاقيات الرقمية).

والأخلاقيات الرقمية هي المعايير التي تهتم بشكل عام في العلاقة والتفاعل بين البشر والتكنولوجيا الرقمية، وفحص هذه العلاقة التواصلية والتفاعلية أخلاقياً بحيث تعمل على زيادة الوعي المرجو من هذه العلاقة. ويمكن تكوين فكرة واضحة عن طبيعة الأخلاق الرقمية من خلال طرح عدة تساؤلات متعلقة بالعالم الرقمي، حول ماهية النصوص وطبيعة اللغة واللهجة المناسبة للتواصل، والمبادئ والإرشادات التي تحكم مجتمعاً معيناً على الإنترنت. ومع أنه لا توجد قوانين صارمة تحكم قواعد السلوك في كيفية التواصل والتواصل الرقمي، بحيث يكافئ من هذا التفاعل القوانين الصارمة التي تحكم قواعد السلوك في التواصل وجهاً لوجه، لذلك برز الاهتمام بالأخلاقيات التي يجب تطبيقها في التواصل الرقمي، واتخاذ الأساليب المناسبة لإدارة الاتصال بطريقة أخلاقية.

-----

المراجع

[1]مستخدمو الفضاء الأزرق بين دعائم القيمية وجرائم التقنية، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد 52.

[2]المجلة الأردنية للعلوم الاجتماعية، العدد 2.

[3]الأخلاقيات الرقمية والحداثة في التواصل الإنساني، أحمد عبد الله الأحمد، ماجدة أحمد عمر، أمجد هديب، البحث العلمي، الجامعة الأردنية.