لم يكتفِ الشاعر علي كنعان (1945) بالشعر وحده في نتاجه الإبداعي، فقد قام بنشاط (الترجمة) إلى جانبه، وأيضاً كان له باعه الطويل في النقد الأدبي
ومن أعماله الشعرية نذكر:"يا وطني، القبيلة المهزومة، بكاء الشجر اليابس، تراتيل إلى امرأةٍ غامضة، أعراس الدم، إيزيس والذئب، وقصائد إلى الله والشيطان".. وخلالها تناول الشاعر الكثير من الغايات والأغراض الشعرية، مثل: النقد العميق للواقع العربي عبر رمزية القبيلة، وقضايا النفي والغياب والتصحر الروحي، وقصائد حب تمتزج بالتصوف والحسرة.
ومناسبة الحديث عن الشاعر علي كنعان؛ هو مجموعته الشعرية التي بين إيدينا (شهب ورياحين)، وفيها لم يُفارق كنعان أسلوبه الشعري فيما تقدّم من إصدارات، فقد بقي أميناً على هذه الخصوصية الفنية التي أفردت له مساحته التي تليق بهذا النتاج الإبداعي في ديوان الشعر السوري، وهو الذي يرى "إن الشعر ليس زينة لغوية، بل أداة وعي ومواجهة." حيث الذات الشاعرة عنده مشبعة بالأسى، لكنها تقاوم عبر الكتابة. كنعان الذي وصف صوته الشعري بأنه أشبه ما يكون بـ"الصوت العميق الهادئ"، يكتب من أجل "البقاء في المعنى"، لا من أجل الأضواء.
"جهّز مخالبك العتيقة
يا شبيه الذئب،
واستنفر ثعابين الدجى سندا."
هذه ومضة مجتزأة من نصٍّ طويل من مجموعة (شهب ورياحين)، وخلالها يُخاطبُ الشاعرُ (كائناً مفترساً) يحملُ ملامح الماضي القمعي.. والذئب والثعابين رموز تأتي مفخخة بالشر والعنف. و"مخالبك العتيقة": ترمز إلى أدوات القمع التقليدية. فيما "ثعابين الدجى": تعبيرٌ مرعب عن الظلام، المكائد، والبطش السري. هنا نلمح خطاب هجائي عنيف، يتوسل اللغة الرمزية، دون تسميات مباشرة. حيث يمتزج فيه الغضب بالتهكم، فيما يشبه السور الواقية ضد الكائن المفترس كما تأتي صور: الذئب والثعابين لتُحاكي مشهداً من الجحيم السياسي، أو من اللاوعي الجمعي الحذر من الاستبداد..
"وأرى إيزيس تهمي بحنانٍ مريمي،
وتواسيك بأن تبتعد عن مائدة الشعر
لكي تنسى مواعيد الجميلات
ولا تأسى لأشجان الرياح."
هنا يلجأ الشاعرُ إلى فعالية فنية أخرى، كثيراً ما استعذبها، وهي استدعاء الكثير من الشخصيات التي كان لها سجلها الحافل في المرويات التاريخة، وفي هذا النص يستدعي "إيزيس" – إلهة الأمومة والخصب – في صورة تجمع بين الحنان الأسطوري والعذري (حنان مريمي).
كما تاتي دلالة "الابتعاد عن مائدة الشعر": ربما كنصيحة خيالية بأن تترك الإبداع الذي يستهلكك ويزيدك ألماً. فيما "الجميلات"، "الرياح": فهي رموزٌ للشهوات والهموم العابرة التي يؤثر الشعر فيها ويستمدُ منها. كلُّ ذلك يُشكّل صورة رائعة في بنائها: "إيزيس" التي تواسي الشاعر بأن يرتاح، أن يتخفف، وأن يصمت قليلاً.
"أبكي على هكتور
كيف استهان بالحصان الخشبي،
وترك الأقزام يمنحونه طروادة.."
وهنا أيضاً يُتابعُ الشاعر استحضاره للشخصيات التاريخية القديمة، حيث يُحاكي أسطورة "هوميروس"، ويستعيد لحظة خيانة "هكتور" لنفسه وخراب "طروادة" حين قبل الحصان الخشبي دون حذر. وفي دلالة "الأقزام": رمزية جارحة تشيرُ إلى العملاء، أو صغار النفوس. فيما "طروادة": ترمز للوطن/الكرامة/المجد.
"ها أنتَ في الشام بين الوجد والوجل
ولهانٌ تخلط بين الخمر والخبل..
فالكون لولا جلال الشام ما اكتنزت
آلاؤه نعماً من جوهر الأزل."
وفي هذه الأبيات التي صاغها على أوزان الخليل، يأتي بالمعنى فيها مُتأرجحاً بين العشق والخوف، الخبل والخمر، أمام معشوقة متقلبة هي "الشام". وتأتي الرمزية من خلال "بردى": راوية التاريخ. وما تبقى، أو حصتنا الضئيلة من المجد.
"لنفتح الجراح
على بوابة هيروشيما..
وليكن الجنون لائقاً."
هنا دعوة إلى إعادة قراءة التاريخ بدمويته – من هيروشيما، إلى كابول، إلى الفلوجة – بطريقة تجعل الجنون فعلاً واعياً ومقصوداً..
عن اللغة
يستخدم الشاعر علي كنعان لغةً شاعرية، مكثفة لكنها ليست غامضة، فهي توصل المعنى العاطفي والسياسي بلغةٍ واضحة، دون الوقوع في المباشرة أو السطحية. وتتراوح ألفاظه بين: اليومي العادي: (المطار، القلب، جثماني، الجميلات..) والرمزي–الأسطوري: (إيزيس، هيروشيما، الذئاب، بومة الأرق..).. وهذه التوليفة تُعطي للنص عمقاً مزدوجاً من جهة قرب شعبيته، ومن جهة ثانية رقي معرفي وثقافي.
الصورة الشعرية
كما يبرع علي كنعان في خلق صور مركبة ذات بعدٍ درامي: "في فراشي بومة تفترس النوم" صورة تمزج بين السكون والافتراس، بين الذات والفكرة. "الدم لا يكفي لإطفاء السعار" هنا تأتي كاستحالة إرضاء المفترس، وتصوير للشهوة المستمرة للدم. حيث يبني صوره على المفارقة والتمثيل النفسي، لا على الزخرفة البلاغية.
الإيقاع والموسيقا الداخلية
لا يتقيد الشاعر بالوزن التقليدي دائماً، بل يكتب ما يُشبه قصيدة النثر ذات الإيقاع النفسي. والموسيقا لديه تنبع من التكرار، التوازي، والتحولات المفاجئة في الصورة: "الخبل والخمر" – وأحياناً تكرار حرفي يصنع نغمة داخلية.
عن الخطاب الشعري
الذات في هذه النصوص ليست "أنا" شخصية، بل ذات تتكلم بلسان الجميع: المغترب، المنفي، الشاعر، الضحية، الثائر، العاشق، الخائف.. وكثير من المقاطع تبدأ بصيغة المفرد ("أبكي"، "أرى")، لكنها تنتهي بنداء عام أو إشارة جماعية ("لنفتح الجراح"، "كل ما في الأرض من خراف").
علي كنعان في كلِّ ما تقدم: "شاعرٌ يُجيد الغوص في الداخل الإنساني ويكتبُ كأنه يُرثي العالم بهدوءٍ صاخب."، وهو كما يوصف شعره ب"المكثف، العميق، الذي لا يحتاج إلى شرحٍ طويل، بل إلى تأمل طويل."