يشغف الفلاسفة بالتساؤل الفلسفي، وتتعدد الرؤى والأفكار بين واحد وآخر، وتبدأ التناقضات ولا تنتهي، ولكن في النهاية هي أفكار هدفها الوصول إلى الحقيقة.

ما الذي تقدمه لنا الفلسفة؟ وهل تلبي حاجتنا من أجل تشكيل تصور موحد وشامل عن الكون والحياة؟

يؤكد ميغيل دو أونامونو بأن الفلسفة تقوم بذلك، وحين تشكل تصوراً موحداً وشاملاً عن الكون والحياة، فإن ذلك التصور يخلق شعوراً يولد موقفاً حميماً، وربما عملاً. وفلسفتنا، أي طريقة فهمنا للعالم والحياة أو عدم فهمنا لهما، تنبع من شعورنا حيال الحياة ذاتها. ولهذه الحياة، كما لكل ما هو عاطفي، جذور تحت شعورية أو لاشعورية ربما.[1]

الفلاسفة مأسورون بشغف التساؤل والكفاح عن أسئلة اختبروا وجودها بشكل ملحّ ومستمر. ولكن سقراط، وقبل أن يتوجه لفهم الخارج، فإنه يصر على معرفة ذاته أولاً، أي أن سؤال سقراط يتجه نحو بُعد آخر تماماً: ما الذي يعنيه أن أكون من أكون؟ أي أن أكون كائناً بشرياً؟[2]

أشار أفلاطون في كتابه (الألوهية)، وكذلك أشار أرسطو في كتابه (الميتافيزيقا)، إلى أنه إذا استطاع الإنسان أن يعمل في مجال الفلسفة، فذلك بفضل قدرته على التساؤل، والإجابة على ما هو واقعي، من خلال فهمه لهذا الواقع. وبرزت الأفكار الأرسطية أكثر جلاء وقوة من أفكار أفلاطون، فيما يتعلق بالفيلسوف أو المشتغل بالفلسفة[3].

أما شوبنهور في كتابه (العالم كإرادة وتصور) فيسحب التساؤل الفلسفي على جميع الأشياء، وهناك مراتبية وتدرج حقيقي للقدرة على التساؤل؛ فعمل الفيلسوف ليس رؤية الأشياء في حالتها الاستثنائية، وإنما في حالتها العادية والمألوفة التي لم يفكر فيها أحد. فالتفكير في الشيء العادي أجدى من التفكير في الشيء غير العادي. ويقول شوبنهور: "أن تتمتع بالعقلية الفلسفية، فهذا يعني أن تكون قادراً على التساؤل عن أحداث معتادة، وعن أشياء تحدث كل يوم، وأن تطرح – كموضوع للدراسة – ما هو عام وشامل وأكثر عادية من كل الأشياء".

الفكر يعمل – كما يرى شوبنهور – من أجل مهمته البدائية الأولى؛ وهي الحفاظ على الحياة.

من الذي يفكر؟ وهل الفلسفة مجال للجميع؟

في نظر شوبنهور الفلسفة ليست مجالاً للجميع، وهناك على العكس أرستقراطية ثقافية للطبيعة، فالفائض الفكري لا نصدفه في الواقع بشكل دائم سوى لدى الإنسان العبقري. إن قانون الطبيعة الاقتصادي ينص على أن الطبيعة تعطي حق التفوق لأقلية ضئيلة من البشر، ولا تصنع إلا الندرة منهم كعباقرة في خدمة أهدافها، أما البقية الباقية من البشر، فتعطيهم الطبيعة فقط ما ضروري لحفظ النوع.

لم يسلم من نقد شوبنهور فلاسفة عصره وأرستقراطيو الثقافة، وقد وصم شوبنهور كبيرهم هيغل بـ "الملوث بالمغالاة" وبـ "المشعوذ" وبـ "السفسطائي المتبجح". ولم يجد في هيغل مثقفاً حراً، بل مثقفاً يبحث عن الشهر والمجد والمال و"يرقص على النغم الوزاري" أو "المخلوق الفلسفي الوزاري"[4].

وبالنسبة إلى موقف شوبنهور من كانط، فقد أثنى شوبنهور على فلسفة كانط الأخلاقية ومدحها، ثم سرعان ما تراجع عن موقفه، وبدأ بنقدها بحدة قائلاً: "في الواقع لم يعتقد كانط في البحث عن السعادة في (فلسفة الأخلاق) سوى بالظاهر فقط، بل ظل حتى النهاية من دعاة فلسفة السعادة بدون أن يدري". ثم وبعد دراسته للأخلاق عند كانط بتمعن، توصل شوبنهور إلى أن كانط يشبه المشعوذ الذي يخرج أرنباً من قبعته ويخفيها كما يشاء، ذلك أن القبعة "تحتوي على خبايا وأرانب"، وأضاف: "إن كانط هنا يذكرني بحال رجل في حفلة تنكرية، ظل يدور حول امرأة أثارت إعجابه، وحين التقاها ونزع قناعها، فإذا بها زوجته التي كان قد تركها في البيت"[5].

يحاصر شوبنهور فلسفة كانط الأخلاقية، ويوجه نقداً سافراً، هذه المرة، إلى فكرة الرحمة الكانطية، التي تقول إن التألم من أجل الآخرين والقيام بفعل الخير للآخر، عمل أناني أو ثمن يدفعه المرء من أجل راحة ضميره. ويستهدف نقده كانط بكل وضوح قائلاً: "إن الرحمة التي يتكلم عنها كانط هي محض أنانية متخفية، ليس وراء حجاب الوعي الكوني، وإنما خلف شعار العواطف الطيبة".

أراد شوبنهور أن يخرج الرحمة من تمثّل ألم الآخر، أي من الأنانية، إلى رفض مبدأ الفردانية الذي بدونه لا وجود للأنانية. وبهذا تخرج الرحمة من شكل لهموم الآخر، لتصبح نتيجة للانتشار الكوني للأنا. والأنا عند شوبنهور ليس مركزاً للعالم، وإنما العالم نفسه: "تتطابق (أناي) مع كل أشكال الحياة، معبرة بذلك عن الحب لجميع هذه الأشكال".

يقول شوبنهور: "علينا أن نبحث في الإرادة عن المعلوم الوحيد القابل لأن يكون المفتاح لأية معرفة أخرى، ومنها يبدأ الطريق الوحيد الضيق، الذي يمكن أن يفضي بنا إلى الحقيقة".[6]

شكلت تساؤلات شوبنهور مرجعاً وأساساً لجيل الفلاسفة الذي تلاه، ولكن تساؤلاته أيضاً كانت ولا تزال موضع نقد وتساؤل حتى الآن.

----

المراجع

[1]الشعور المأساوي بالحياة، ميغيل ده أونامونو، ترجمة علي إبراهيم أشقر، دار التكوين، دمشق، 2011، ص8.

[2]التفكير فلسفياً،- مدخل إلى المناظرات الفلسفية الكبرى، ديفيد روتشنك، دار الحوار، اللاذقية، 2018، ص12-13.

[3]شوبنهور، كيوم مورانو، ترجمة فاروق الحميد، دار التكوين، دمشق، 2013، ص13.

[4] شوبنهور، كيوم مورانو، ترجمة فاروق الحميد، دار التكوين، دمشق، 2013، ص19-20.

[5] شوبنهور، كيوم مورانو، ترجمة فاروق الحميد، دار التكوين، دمشق، 2013، ص184.

[6]شوبنهاور وفلسفة التشاؤم، وفيق غريزي، دار الفارابي، بيروت، 2008، ص70.