يعد التوحد أحد الأمراض الخطيرة، والتي تتضمن إرباكاً واضطراباً في الأداء النفسي للإنسان. ويصيب التوحد الصغار والكبار على السواء.

التوحد وهو أحد الأعراض النمائية الشاملة (خلل في مظاهر النمو الاجتماعي والمعرفي)، والتي تعد من أكثر مشكلات الطفولة إرباكاً، لأنها تتضمن اضطراباً في جوانب الأداء النفسي خلال مرحلة الطفولة، والذي قد يمتدّ إلى مراحل أخرى. وهو يصنّف من أعقد الاضطرابات والأمراض، وليست له أعراض ثابتة، كما أنه مختلف من حيث الشدة والتشابه في المصاب الواحد أو مع الآخرين. وقد أدّت الإصابة به أن تجعل الطفل التوحدي في أغلب الأحيان انعزالياً ومنطوياً على نفسه ولا يشعر بالآخرين؛ حيث لا يميل إلى اللعب الابتكاري والجماعي، ولا يشعر بالأخطار الطبيعية التي يجب أن يخاف منها. واضطرابه هذا قد يجعله يضحك ويبكي من دون أسباب محددة[1].

والتوحد (Autism) مصطلح مأخوذ من اللاتينية مشتق من (Autos) وتعني النفس و(Ism) وتعني غير السوي، هو إعاقة متعلقة بالنمو تؤثر سلباً في جميع جوانبه. أما أبرز تأثيراته فهي في القدرة على التواصل بشقيه اللفظي وغير اللفظي، والذي ينتج عنه غياب تام للغة استقبالية كانت أم تعبيرية، مما يترتب عليه خلل في مهارات المصاب اجتماعياً وسلوكياً ونفسياً، ويؤدي إلى انعزاله عن المحيط، وانشغاله باهتمامات وأنشطة محددة وروتينية وسلوكيات نمطية تدور أغلبها حول ذاته، بالإضافة إلى مشكلات حسية تتمثل بالحساسية الزائدة أو اللامبالاة. وهذه المشكلات جميعها تظهر بوضوح في ثلاث حواس، هي السمع والبصر واللمس. وغالباً ما يتمّ تشخيصه خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل. وقد أشار "سكوت جاك" Scott Jack إلى أن الأطفال التوحديون ينشغلون بعدد قليل من الأنشطة والاهتمامات، ويتسم سلوكهم بالنمطية والتقلب، ويرفضون تغيير بيئته المحيطة[2].

الطيف .. أنوار العلم

والحقيقة أنّ الأبحاث والدراسات مازالت تجري حتى الآن لمعرفة الأسباب المؤدية إلى حالات التوحد، فضلاً عن عدم قدرة العلماء على الكشف عن تأثيرات هذه الحالة في البيئة الدماغية، أو على الوظائف والخصائص الكيميائية للدماغ، لكن كان من الممكن توضيحها بعدة عوامل منها: جينية، بيولوجية، نيرولوجية، نفسية، إصابات في المخ، الشلل الدماغي، الإعاقة العقلية، الأسباب البينية، الالتهاب الدماغي،تأثير المطاعيم، التسمم بالمعادن الثقيلة، نفاذ الأمعاء للكازائين والغلوتين، مع الأخذ في الاعتبار تعقيد المرض ومدى الاضطرابات الذاتوية، وحقيقة انعدام التطابق بين حالتين ذاتويتين[3].

الوحم الشاذ

واحد من أهم الاضطرابات التي يعاني منها مصاب التوحد، هو اضطرابات الأكل والطعام، والتي تشخص عادةً في مرحلة الرضاعة والطفولة، وتسمى "الوحم الشاذ"[4]؛ حيث يشير "إدواردز" Edwards إلى أنّ هذا الاضطراب ينتشر بصورة متساوية بين الأطفال الذكور والإناث، لكن يندر وجوده بين المراهقين والذكور البالغين[5]، وقد عرفه "دان فورد وهوبر" Dan ford & HUBER بقيام المصاب بأكل مواد غير صالحة للأكل كالحجارة والنقود المعدنية والشامبو والملابس وأعقاب السجائر، ويحدث لدى الأطفال والكبار لمرة واحدة أو أكثر[6]. أما "كارتر" فيرى بأنه اضطراب يتميز بابتلاع المواد غير الصالحة للأكل، ويحدث لدى 10 إلى 30 بالمئة من الأطفال تحت سن السادسة، ويمكن من خلاله أن تحدث مشاكل واضحة كالتسمم وانسداد الأمعاء والالتهابات البكتيرية ونقص التغذية[7].

اتجاهات متعددة

تم الاعتماد عالمياً على مجموعة من الحميات الغذائية لتخفيف أعراض وسلوكيات التوحد كالحمية الخالية من الغلوتين والكازايين، والحمية الخالية من الأملاح والفطريات. ولتحسين حالة الطفل المتوحد غذائياً لا بدّ من تزويده بالبروتينات والألياف ومكملات الفيتامينات والمعادن والابتعاد عن المواد الحافظة والملونة والسكر والحلويات[8]. هذا فيما يتعلق بالجانب الغذائي، إلا أن سلوكيات الأطفال المتوحدين تتأثر إيجابياً بممارسة الرياضة؛ حيث تعتبر الأنشطة والألعاب الحركية وسيلةً لضبط السلوك باستخدام اللعب في الكثير من الحالات، منها: عدم النمو الجسمي والاجتماعي والعقلي والانفعالي المتكامل والمتوازن، مما يقويه جسدياً ويزوده بمعلومات عامة، ويساهم في زيادة تفاعله الاجتماعي وتفريغ انفعالاته. أما دمج الأنشطة الرياضية بالموسيقى، فله دوره الهام في تنمية المهارات الشخصية والحركية والاجتماعية، وتساعد في تخفيف بعض مشاعر القلق لدى الطفل المتوحد من خلال تفريغ الطاقة الانفعالية للمواقف المثيرة للقلق، كما تعملان معاً على تنمية المهارات اللغوية إلى جانب العقلية والاجتماعية[9].

كذلك فإن من أهم الأنشطة التي تساهم في تنمية إدراك المتوحدين الحسي والبصري، هي الأنشطة الفنية، عن طريق الإحساس باللون والخط والمسافة والبعد والحجم والإدراك من خلال ملامسة السطوح. كما أن العلاج بالرسم يساعد على انطلاق الشعور التعبيري والانفعالي من خلال تطور التفاعل بينه وبين العمل الفني، ويعمل على تنمية وعي الطفل بنفسه، ويجعله قادراً على إخراج عمل جميل مميز، ويساعد على نمو إحساسه بالبيئة حوله[10].

التوحد والتنظيم

يقول الباحث "سيمون بارون كوين" (الأستاذ الجامعي المختص في طب النفس السريري ومدير مركز أبحاث التوحد في جامعة "كامبريدج"): وفقاً لسيرتهما الذاتية، فقد انغمس "إديسون" في تجاربه لدرجة أنّ زوجته وضعت له فراشاً في مكتبه لينام عليه، بينما واصل "نيوتن" إلقاء محاضراته بجامعة "كامبريدج" حتى ولو لم يكن يحضر أي طالب، لأن المحاضرات كانت في عقد عمله. وهكذا تمكن كلاهما من دمج موهبتهما في التنظيم في مكان قدّر هذه الموهبة. وحسب كوين، فإن هذه الشخصيات ربما كانت ذات سمات توحدية مرتفعة، لكنه أراد فهم هذا الرابط فهماً أفضل إذ يقول: "عندما نظرنا عن كثب إلى دراستنا لأنواع الدماغ، وجدنا أنّ المشاركين البالغ عددهم 36000 الذين شُخّصوا بالتوحد، ميالون لأن يكونوا تنظيميين أو من مفرطي التنظيم، سواء من الرجال أو النساء، ووجدنا أيضاً أنّه بالنسبة إلى 60000 شخص آخر شملتهم الدراسة لم يُشخّصوا بالتوحد، يعملون في مجالات العلوم والتكنولوجيا والرياضيات والهندسة (STEM)، لديهم عدد أعلى من سمات التوحد أكثر من العاملين في مجالات غيرها. وفي دراسات أجريت على علماء الرياضيات في الجامعة، وجدنا ارتفاعاً في معدّل من شُخّصوا بالتوحد مقارنة بالاختصاصيين في العلوم الإنسانية مثلاً". كما وجد كوين أيضاً أن أكبر عدد من آباء الأطفال المصابين بالتوحد، هم من العاملين في مجالات (STEM).

ويشير كوين إلى أن التوحد ليس مصادفة جينية، لكنه متشابك مع قدراتنا على الاختراع، وفي كثير من الأحيان هُمّش الأشخاص المصابون بالتوحد ووصموا واستُبعدوا. وقد أظهرت دراسات مقلقة أجراها في مختبره، أن الصحة العقلية لغالبية المصابين بالتوحد متردية، ويعانون من مستويات عالية من القلق والاكتئاب، وفي هذا يقول: "لنكن واضحين بأنّ الصعوبات المرتبطة بالصحة العقلية، ليست جزءاً أصيلاً من التوحد، بل إنها علامة على نقص الدعم وتسهيل الاندماج في المجتمع؛ حيث إن مستويات بطالة البالغين المصابين فيه مرتفعة ارتفاعاً غير مقبول، وآمل بأن يساعد اكتشاف العلاقة بين التوحد والاختراع على احترام تنوع أدمغتنا البشرية والاحتفاء به.

-----

المراجع

[1] اضطراب التوحد (التشخيص والعلاج) – الكتاب السنوي لمركز أبحاث الطفولة والأمومة ، المجلد الحادي عشر، ص 15.

[2] مجلة البحث العلمي في التربية، العدد التاسع عشر 2018، ص 406.

[3] اضطراب التوحد، ص 16.

[4] المرجع السابق، ص 20.

[5] المرجع السابق، ص 22.

[6] المرجع السابق، ص 23.

[7] المرجع السابق، ص 62.

[8] المرجع السابق، ص 82.

[9] الرياضة والموسيقا في علاج التوحد، ورقة بحثية م.د. هيام سعدون عبود - مركز أبحاث الطفولة والأمومة ص 196 و 195.

[10] دور التربية الفنية في حياة طفل التوحد، ورقة بحثية م. د. خدام خليل حميد، ص 201 و 202.

[11] مجلة العلوم، سيمون بارون كوين، ترجمة محمد رفاعي.