رغم إصابته بالعمى، إلا أن بورخيس يتمتع بذاكرة فولاذية، وبثقافة موسوعية، أهلته ليكون بين أهم كتّاب القرن العشرين.

في لحظاته الأخيرة، وهو على فراش الموت، قال هذه العبارة: "هذا أسعد يوم في حياتي". يمكن أن تكون هذه العبارة مفرحة في ظرف آخر، ولكنها هنا مرعبة ومزلزلة، لأنها إفصاح خطير عن مغزى الحياة التي يعيشها الإنسان. إنها بلا معنى، مهما سعينا أن يكون لها معنى.

خورخي لويس بورخيس حكّاء من الطراز الرفيع، وعاشق للأسطورة، وصاحب الذاكرة الفولاذية، يترك كل هذا وراءه غير آسف، شاعراً بسعادة لا توصف. هو لا يشعر بالغربة فقط في هذا العالم، وإنما يشعر بأن العالم كله هباء، رغم أنه كافح فيه وسجّل موقفاً يُحسد عليه.

بورخيس

يبدع ويليس بارنستون كتاباً جميلاً عن بورخيس، ويضع له عنواناً بسيطاً ومعبراً: "بورخيس- مساء عادي في بوينس آيرس". ويبدأ كتابه من لحظة لقائه ببورخيس عام 1968 في مركز الشعر في نيويورك. كان بورخيس حينها قد فقد بصره.

تستمر لقاءاتهما وحواراتهما، إلى أن مات بورخيس عام 1986. ويقول بارنستون: "ومنذ ذلك اللقاء الاعتباطي، في الصفوف الخلفية للمسرح قبل عشرين عاماً، وجدت نفسي مأخوذاً بحضور كلمات خورخي لويس بورخيس، وبالذكريات".

الحلم

كان بورخيس إنساناً حالماً، كان يجذف أبعد من بحارة الأوديسة، ويغوص عميقاً في مياه الحلم التي لا تطالها الذاكرة البشرية. يصطاد صوراً لا يمكن فهمها، ويتساءل عمن يكون هو نفسه:

أنا كل الآخرين وربما لا أحد

أنا الآخر الذي لا يعرف من أنا

الذي نظر إلى ذلك الحلم الآخر، إلى يقظتي.

هذا البورخيس الذي اخترع شخصيات لتكون حلمه، اخترع رينيه ديكارت غامضاً يشك في وجوده. اخترع باروخ اسبينوزا، واخترع شخصيات تعرف شيئاً ما، لكنها لا تبوح به لنا ولا لبورخيس.

إن بورخيس، الذي ابتكر ديكارت، يعقد مسألة الوجود، حيث يكون ديكارت القصيدة وهماً أو حلماً، والموجود هو ديكارت اللاتاريخي- ديكارت المبتكر من قبل بورخيس.

يختبر بورخيس بالطبيعة المخادعة للزمن، من خلال بيركلي وهيوم وشوبنهور. ويستخدم مبادئ بوذية ليدحض الأنا، ويدحض وجوده نفسه ووجود الكون. ومع ذلك لا يجد بداً من الخروج من الاستعارة البوذية والعودة إلى مصيره المحتوم، أي العيش في الزمن، ويقول: "العالم لسوء الحظّ حقيقي، وأنا لسوء الحظّ بورخيس".

العمى

في بداية الخمسينيات أصيب بورخيس بانفصال في الشبكية، وفقد بصره في عينه اليسرى، بينما كانت عينه اليمنى المشوهة ترى تموجات اللون الأصفر لمسافة قصيرة. وفي عام 1968 فقد بصره نهائياً. وكما يقول بارنستون: "إن بورخيس الذي عرفته كان أعمى، لكنه كان قد فتح كل نوافذ العالم لكي يظهر صباح ضوئه المبتكر. كان العمى هدية منتصف العمر، والذي تصادف مع تعيينه أميناً للمكتبة الوطنية التي تحوي أكثر من ثمانمائة ألف كتاب".

لقد ماتت عيناه، ولم يعد في استطاعته التمتع بجمال العالم، فاخترع تاريخاً متخيلاً يغوص في ظلام داخلي مفزع. كان الحلم هو مهنته.

وحين كان يسير في الشارع، كان بعض رجال الشرطة يحنون قاماتهم للكاتب العجوز بورخيس، الذي كان معارضاً لقادتهم في الحزب البيروني بشكل رسمي. وفي إحدى المرات اقترب منه أحد الكهول وصافحه وقال إنه سعيد أنه لا يزال يوجد على الأقل أرجنتيني واحد شجاع بما فيه الكفاية لكي يتحدث في السياسة معرضاً مسيرته وحياته للخطر. وكان بورخيس الأعمى يتجه إلى كل الوجوه التي تقترب منه ويهديها ابتسامته، ويشد على أياديهم بيديه الاثنتين.

في أول منصب له في المكتبة الوطنية، قام بيرون بعزله، لأنه كان معارضاً له، وعين في منصب مفتش للأرانب والطيور الداجنة، في محاولة من بيرون لإنزال إهانة بالمثقف المنشق والأكبر في الأرجنتين. ولم يكن من بورخيس إلا أن استقال في اليوم التالي. وبعد سقوط بيرون عام 1955، انتهى كابوس بورخيس وعين مديراً للمكتبة الوطنية، ويقول بورخيس:

"بطيئاً في عتمتي

أكتشف خيوط الغسق بعصاي المرتجفة

أنا الذي تخيل أن الفردوس

هو الفضاء القابع تحت عنوان مكتبة".

بابلو نيرودا

اتخذ بورخيس موقفاً صارماً تجاه بابلو نيرودا. قال إن قصائد نيرودا الوجدانية الغزلية كانت سخيفة في البداية، ولكن شعره أصبح أكثر قوة عندما صار شيوعياً. أما بالنسبة إلى موقف نيرودا من بيرون، فقد استحق التأنيب من قبل بورخيس. فنيرودا – الثائر التقدمي، لم يقل كلمة واحدة بحق بيرون الرجعي، مع أن بيرون كان يعذب الشيوعيين الأرجنتينيين ويرسلهم إلى صقيع باتاغونيا. ومع هذا فإن بورخيس يفصل بين الموقف السياسي لنيرودا وبين شعره ويقول: "لكنه شاعر متميز جداً، شاعر عظيم في الحقيقة. وعندما فاز ذلك الرجل "ميغيل أنخيل إستورياس" بجائزة نوبل، كان يجب أن تعطى لنيرودا".

أما نيرودا فكان يحترم بورخيس ويقول: "إنه كاتب عظيم، ونشكر السماء على ذلك! ولكن لن أتشاجر مع بورخيس لمجرد أن كل واحد يريدني أن أتشاجر مع بورخيس. هذا ما لن أفعله. إذا كان يفكر كالديناصور، فهذا ليس له علاقة بتفكيري".

الموت

توفيت والدة بورخيس في تموز 1973، ويذكر بورخيس أنها عانت لمدة سنتين، وخاصة في الأشهر الستة الأخيرة. ويقول متأثراً بموتها: "كانت تصلي من أجل تلك الليلة التي ستكون ليلتها الأخيرة. وعندما استيقظت ذات صباح، ووجدت نفسها لا تزال على قيد الحياة، قالت إن الله لا بد أنه يعاقبها على إثم ارتكبته، لكنها لا تتذكره".

أما بورخيس فإنه لم يكن يخاف الموت، حتى إنه لا يفكر في الانتحار، بالرغم من أنه – وكما يقول بانستون – يتأفف دائماً من كونه بورخيس ومن العيش في هذا العالم الذي هو غالباً متعب. وعن موته القادم لامحالة يقول بورخيس: "يمكن أن يأتي موتي كطائر أسود في الليل. لن أبالي. بالرغم من أنني أقول للآخرين بأنني مريض ومتعب من متعة كوني بورخيس كل ليلة. ما زال لدي قصائد لأكتب، كتباً لأقرأ، وأمكنة لأرى".

وفعلاً كتب بورخيس القصائد وكتب الكتب وزار أمكنة، ولكنه في النهاية، رحل عام 1986، من أن تتوج جائزة نوبل نفسها باسمه، وكأنها لا تستحق اسم هذا الديناصور العملاق.

----

الكتاب: بورخيس- مساء عادي في بوينس آيرس

الكاتب: ويليس بارنستون

ترجمة: د. عابد إسماعيل

الناشر: دار المدى، دمشق، 2002