ظهرت التراجيديا في اليونان نهاية القرن السادس قبل الميلاد، حيث جاءت بعد الملحمة والشّعر الغنائي، وانمحت في اللحظة التي انتصرت فيها الفلسفة. ومن حيث أنها جنس أدبي، فقد بدَت تعبيراً عن شكل خاص للتجربة الإنسانيّة، ترتبط بشروط اجتماعيّة وسيكولوجيّة محدّدة.

قصّة التراجيديا

التراجيديا جنسٌ أدبي له قواعده وصفاته المميّزة، وقد أسّست في نظام الأعياد العامة للمدينة نوعاً جديداً من العروض، بالإضافة إلى ذلك فإنها كشكل تعبير خاص، تعكسُ ملامح من التجربة الإنسانيّة لم تكن قد عُرفت قبل ذلك الوقت. وتشكل التراجيديا مرحلةً في تكوين الإنسان الداخلي والذّات المسؤولة. إنّها ظاهرة تبدّت بصفات محكمة، من خلال ملامح ثلاثة هي (النّوع التراجيدي، والعرض التراجيدي، والإنسان التراجيدي)[1].

وكلمة تراجيديا Tragoidia تعني (أنشودة الماعز)، فمن المفترض أنّ الجوقة الأصليّة كانت تتألّف من "السّاتير" الذين كانوا في بعض الجوانب يشبهون الماعز فعلاً، إلا أن "إلز" ذهب في كتابه "أصل التراجيديا الإغريقيّة وشكلها الأوّل" إلى القول بأنّ هذا التفسير خاطئ، أما طرحه الخاص فهو أنّ لفظ Tragoidoi كان اللقب الرسمي للمتسابقين في التراجيديا، أولئك الّذين تنافسوا بالفعل للحصول على الجائزة التي كان التراجيديّون يتنافسون عليها وهي الماعز. ومن المحتمل أنّ الاسم كان تعبيراً ساخراً حينما استُخدم كلقب للمرّة الأولى، وقد يحمل اسم "حكيم الماعز"[2].

لقد ظهرت التراجيديا في اليونان نهاية القرن السادس قبل الميلاد، حيث جاءت بعد الملحمة والشّعر الغنائي، وانمحت في اللحظة التي انتصرت فيها الفلسفة. ومن حيث أنها جنس أدبي، فقد بدَت تعبيراً عن شكل خاص للتجربة الإنسانيّة، ترتبط بشروط اجتماعيّة وسيكولوجيّة محدّدة. والتمثيل التراجيدي يشغله عنصران متقابلان، لكنّهما في الوقت نفسه متضامنان بشكل حميم، فمن جهة لدينا الجوقة، وهي شخصيّة جماعيّة تجسّدها مجموعةٌ من المواطنين المتنكرين، ويقتصر دورها على التعبير عن مشاعر المتفرّجين من خلال التأوهات والآمال والأحكام. ومن جهة أخرى هناك الشخصيّة التراجيدية يؤديها ممثلٌ محترف، يعطيها قناعها ملامح فرديةً تميّزها عن أفراد الجوقة. وهذه الفرديّة لا تجعل من لابس القناع شخصيةً (سيكولوجيّة) أي شخصاً فرديّاً، بل على العكس كان القناع يُلحق الشخصية التراجيديّة بفئة اجتماعيّة ودينيّة محدّدة هي فئة الأبطال، ويجعل من الشخصيّة التراجيديّة تجسيداً لإحدى تلك الكائنات الاستثنائيّة التي تثبت خرافتها في التقاليد البطوليّة التي كان يتغنّى بها الشعراء، والتي كانت تشكل بالنسبة إلى اليونانيين في القرن الخامس قبل الميلاد أحد أبعاد ماضيهم. كما أنّ الشخصيّة فرديّة الملامح يشكل فعلها مركز الدراما، والتي تمثّل بطلاً من زمن آخر، يختلف مصيره عن المصير العادي للمواطن.

وعلى مستوى لغة التراجيديا نفسها، نجد أيضاً ثنائيّة، فهناك غنائيّة الجوقة، ومن جهة ثانية شكل حواريّ عروضه أقرب إلى النّثر، تتحدّث به الشخصيّات الأساسيّة في الدراما. كما أنّ طابع اللّحظة التّاريخية التي تتوضّع بشكل دقيق في الزّمان والمكان، يفرض بعض القواعد المنهجيّة لدى تفسير الأعمال التراجيديّة، فلكلّ مسرحيّة رسالة متضمّنة في نصٍّ ومرسومة في بنية خطاب، يجب أن يكون على كافّة مستوياته موضع تحاليل (فيلولوجيّة) وأسلوبيّة وأدبيّة ملائمة. لكنّ هذا النّص لا يمكن أن يُفهم بشكل كامل إذا لم يأخذ بعين الاعتبار السّياق الذي جاء فيه، وهو سياق ذهني يتمثّل في (أدوات كلاميّة وذهنيّة، ومقولات فكرية ونوعيّة تفكير، ونظُم للتصوّر وللمعتقدات وللقيم، ونوعيّة الذائقة، ونوعيّة الفعل، وأنماط القائمين بالفعل). وهذا النوع الفنّي لا يمكن أن يعكس واقعاً غريباً عنه. إن التراجيديا تبني بنفسها عالمها الروحي، فالوعي التراجيدي وُلد وتطوّر مع التراجيديا. والفكر التراجيدي والعالم التراجيدي والإنسان التراجيدي قد تشكّلوا من خلال تعبيرهم عن ذاتهم في إطار نوع أدبيّ أصيل، وهذا النوع الأدبي لا يعتبر فقط شكلاً من أشكال الفنون، إنّه تنظيم اجتماعيّ، أفردت له المدينة مكانةً إلى جانب أجهزتها السياسيّة والقضائيّة[3].

عبر العصور

في اليونان نشأ هذا الشكل الدرامي عن أغنية كانت تنشدها جماعة الكورس احتفاءً بـ "ديونيسيوس"، حيث كانت في بادئ الأمر تبادلاً للحديث بين ممثل واحد والكورس. ثمّ في مسرحيات "إسخيليوس" تمّ استخدام المونولوج بالتبادل مع الكورس. وفي مسرحيّات "سوفوكليس" و"يوربيديس" استُخدم ثلاثة ممثّلين في آنٍ واحد. وانحصر دور الكورس في نطاق أضيق، على الرّغم من أنّه بقي محافظاً على أهمّيته في المسرحيّات. وقد اعتاد كتّاب المسرح اليونان كتابةَ ثلاثيّة تراجيديّة متبوعة بمسرحيّةٍ (ساتيريّة)، وهي موضوع شبه رومانسي يتناول الآلهة والأبطال. لكنّ هذا النمط، أي الثلاثيّة التراجيديّة، أصبح أقل ثباتاً.

والواضح أنّ فكرة التراجيديا لم تكن جليّةً عند كتّاب المسرح اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، فهي تُقدّم أشياءً مخيفةً عن أُناس عظماء، وقد تقدّم عزاءً في النّهاية كما في مسرحيّتَي "أورسيتا" و"بروميثيا". وقد تأبى المسرحيّة المصالحةَ والوفاق كما في مسرحيّة "طروادة"، وهي المسرحيّة الأخيرة من الثلاثيّة، لكنّ المسرحيّة الساتيريّة التي تلي الثلاثيّة تأتي لتُبدّد أي شعور بالخوف، مقدّمةً في هذا إسهامها الخاص في العمل المسرحي[4].

وفي العصور الوسطى زال عن مصطلح التراجيديا كل ارتباط بفكرة العرض المسرحي، وعادت الدراما إلى "أوروبا" تدريجيّاً خلال القرون التي تلت سقوط "روما"، أولاً في شكل عرض لأجزاء تتناول التفسير المسيحي لتاريخ العالم، ثمّ كوسيلة لتقديم المواعظ الأخلاقيّة في إطار مجازي، يستطيع الإنسان من خلاله أن يحصلَ على الخلاص. فكانت هناك (لحظات تراجيديّة) في مثل هذه الكتابات، يشعر المشاهد عندها بفظاعة الأشياء، لكنّها سرعان ما تندرج تحت نظام كلّي. ففي هذه العصور كانت التراجيديا مجرّد قصّة تنتهي نهايةً غير سعيدة، كما كانت تتحدّث عن عليّة القوم وعن أحداث عامّة عظيمة الشّأن وكانت (جليلة القدر)[5].

وفي عصر النهضة كان في "إنكلترا" عدد من المسرحيّات التي لم تُكتب للمسرح الشعبي، وإنّما لجمعيّات الحقوقيين، وللمسارح الجامعيّة أو للقرّاء فقط. كانت هذه المسرحيّات تحاكي أعمال "سنيكا" أو أعمال مقلّديه من الفرنسيين في تصويرها لفظاعة العالم، وقد كانت كتابات مدروسة شديدة الاعتماد على العصور القديمة، وليست مادّة للمسرح المعاصر. وقد كان ظهور هذه التراجيديا (اللاشعبية) في "إنكلترا" دليلاً على مجرد متابعة لـ "إيطاليا" و"فرنسا" في الدور الطليعي الذي اضطلعتا به في ذلك الوقت. ففي "إيطاليا" كان بناء "التياترو" الأوليمبي في "فيسنيزا" عام 1584 من أشهر المحاولات لتهيئة المناخ المناسب للدراما المعاصرة، لتتبوّأ مكانتها إلى جانب دراما العصور القديمة. وفي القرن السّادس عشر ظهر فيها عددٌ من واضعي النظريّات الذين قاموا بالتعليق على كتاب "أرسطو" فن الشعر، ووضعوا مفاهيم للكتّاب المعاصرين تتميّز بالصرامة البالغة والبعد عن الأسلوب الوصفي الذي انتهجه "أرسطو". أما بالنسبة إلى العروض المسرحيّة، فقد تمّ عرض أعمال "سنيكا" وعُدّلت الأعمال اليونانيّة لتوائم ظروف المسرح المعاصر. وفي "فرنسا" لم يختلف الحال عن "إنكلترا"، فقد ظهر على نحو خاص اسم "روبرت غارنييه"، لكنّ التحوّل لاحقاً جاء على يد "بيير كورني"، وفي "إنكلترا" قبل ذلك بفترة على يد كل من "مارلو" و"شكسبير. لكن في "إسبانيا" كان الوضع مختلفاً، حيث لم يتمسّك كُتّاب الدراما بناموس الكنيسة فحسب، بل كتبوا أقداسهم الطقسيّة الخاصّة، إلى جانب المسرحيّات التي كتبوها للمسرح الدنيوي، والتي كانت تستند من وجهة نظرها إلى أنّ الأمور كلّها لا بدّ منتهية إلى خير.

وفي كلّ من "اسكندينافيا" و"ألمانيا"، منح الفلاسفة للتراجيديا مكانتها التي تحتلّها الآن. ففي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، بذلت "ألمانيا" أقصى جهودها في تقديم أعمال دراميّة تراجيديّة هامّة، وأوشكت أن تعيد إلينا التراجيديا مرّةً أخرى، ثمّ جاء "إبسن" في "النروج" و"سترنبسرغ" في "السويد" أواخر القرن التاسع عشر، ليصلا بالتراجيديا إلى أقصى ما يستطيعه كاتب مسرحي في العصر الحديث[6].

-----

المراجع

[1] الأسطورة والتراجيديا في اليونان القديمة، جان بيير فرنان وبيير فيدال ناكيه، ترجمة: د. حنان قصاب حسن، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى 1999، ص 13.

[2] التراجيديا والفلسفة، والتر كاوفمان، ترجمة: كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، الطبعة الأولى 1993، ص 58.

[3] الأسطورة والتراجيديا في اليونان القديمة، مرجع سابق، ص 14- 21 -22 -23.

[4] الكوميديا والتراجيديا، مولوين ميرشنت وكليفورد ليتش، ترجمة: د. علي أحمد محمود ، عالم المعرفة، الكويت، 1979، ص 117 -119.

[5] المرجع السابق ص 120 -121 -122.

[6] المرجع السابق ص 123 حتى 127.