يضم هذا الكتاب بين دفتيه ست قصص طويلة، تنطبق على مختلف قصص الحب التي نراها في أيامنا هذه، سواء في المجتمعات الغربية شديدة الانفتاح، أو في المجتمعات الشرقية المحافظة.

لن تذهب مع "دو موسيه" إلى كواليس حكايات الحب وأفانين الهوى التي يعيشها العشاق، من أفراح وآلام ومعاناة قد تصل حد الانتحار.. أقول لن تذهب إلى ذلك فحسب، بل ستجد نفسك متورطاً في أحداث حياتية ومجتمعية من القرن التاسع عشر، وقد تموضعت جزئية هامة من صورته الواقعية أمامك، كلوحة كبيرة بتفاصيل غنية ومتلونة، تعكس شيئاً غير قليل مما يمور به المجتمع خلف ستارة النفس الإنسانية، وتنبش في طبيعة علاقات الحب في ظلال عصر تفرض طبيعته البرجوازية وعلاقات أفراده الطبقية، سطوتها على العشاق؛ حيث المظاهر الباذخة هنا والمشاعر الزائفة هناك، وكثير من عذاب المشاعر المرمية على حواف النفس البشرية.

والطريف أن "دو موسيه" نفسه، الشاعر والكاتب الفرنسي الشهير، كان قد وقع في حب جارف مع الكاتبة جورج صاند، وعانى من آلام الحب حين تركته في أحد مشافي إيطاليا وهو في وضع صحي صعب، وغادرت دون رأفة، مع طبيب وسيم، مخلفة في روحه جرحاً لا يندمل.

أمام المجموعة القصصية "الحب بين العاطفة والواقع" الصادرة عن وزارة الثقافة – المشروع الوطني الترجمة، ثمة تساؤل يفرض نفسه حول طبيعة الاختيار، باعتباره مناسبة للعودة إلى أسلوب قصصي قد يبدو أن الزمن تجاوزه بسبب ما أصاب القصة القصيرة من حداثة في الأساليب واللغة والتكثيف على مستوى الحدث والسرد.

هذا الكتاب، الذي تزيد صفحاته عن الثلاثمئة والستين، يضم بين دفتيه ست قصص طويلة، سبقتها مقدمة للمترجم د. ورد حسن، يشير فيها إلى أن قصص كاتبنا دو موسيه "تنطبق على مختلف قصص الحب التي نراها في أيامنا هذه، سواء في المجتمعات الغربية شديدة الانفتاح، أو في المجتمعات الشرقية المحافظة".

إذاً الحب هو العابر الأكثر حضوراً بين البشر عبر العصور، ففي معناه وصورته الجمعية والفردية ما يجعله حاضراً باستمرار بأشكاله المختلفة، ويصبح أكثر إثارة وجدلاً، وربما جنوناً، حين يكون الحديث عن جمالياته وإشكالياته كتفاصيل في علاقة الرجل بالمرأة، أو العكس.

الكتاب فيما ضمه من قصص، يدخلنا في عوالم الأدب والفكر للقرن التاسع عشر من خلال أسلوبه في تناول القصة القصيرة وبنائها الفني والفكري؛ حيث يتوسع في تصوير الحالة الجسدية والنفسية، ويستعيد من ذاكرة شخصياته الكثير من الأحداث التي يراها مناسبة، بفضل سيطرة الراوي كلي المعرفة، ليسلط المزيد من الضوء على الشخصية في حاضرها؛ بحيث يمكن للقارئ أن يقف، من خلال عدسة انتقائية، على مكنونات بطل أو بطلة القصة، التي يسوقها الراوي؛ حيث يعمل على الحفر عميقاً للوقوف على أفعالها ودواعي ذلك على المستوى النفسي، ليسبر أغوار شخصياته على أكثر من مستوى، بقصد تقديم صورة متكاملة للشخصية في إطارها الاجتماعي والفكري الذي يعكس صورة المجتمع بتقاليده وموروثه الثقيل على العاشقين، بسبب الفوارق الطبقية والاجتماعية التي تقف، في بعض الأحيان، حائلاً دون وصول العاشق إلى مراده سواء كان ذكراً أم أنثى.

في هذا السياق لا يفوت دو موسيه التطرق في إحدى قصصه إلى العلاقات الثنائية؛ حيث يجد شاب وسيم مستهتر نفسه عالقاً في دوامة حب لسيدتين، إحداهما من طبقة فقيرة تجد في الحب ملاذها الآمن، والثانية سيدة أرستقراطية تبحث عن التسلية والمتعة، فيقع العاشق بين خيارين يتجاذبان روحه وقلبه في معادلة قاسية.

وفي قصة "ابن تيتان"، يقدم الكاتب صورة مغايرة لما هو معتاد؛ حيث تبادر الأرملة الثرية بياتريس نحو الشاب بيبو الذي يعيش حياة رخية، لاهية، لأنه ورث من والده، الرسام الإيطالي الشهير تيتان، أموالاً تساعده في عيش متعه الخاصة. إلى أن يلتقي بياتريس ويرى فيها ما يشبه الخلاص الروحي، فيرتبطان رغم معارضة أهلها، بسبب سمعة بيبو.

بياتريس تتمكن، بقوة الحب، من إعادة النبض الساخن لروح الفنان والرسام في جوانح بيبو الذي يوافق على رهان رسم صورة لحبيبته تخلد جمالها، لكنه كان يعيش حالة من التردد الغريب "لأن هذه اللوحة رغم كل روعتها، أجزم.. أنها لا تساوي حتى قبلة من ثغر تلك المرأة".

"فردريك وبرونوريت" قصة الصراع بين القلب والعاطفة الحارة، وبين العقل الذي يدفع نحو خيارات مغايرة، فالعاشق طالب في كلية الحقوق يتعلق بفتاة مسرح فقيرة وتبدو "لعوباً"، فيسوق الكاتب الأحداث المليئة بالصراعات المتعددة، لتكون الخاتمة مأساوية.

دو موسيه يستخدم في بلاغته لغته التصوير الحار أحياناً والهادئ في كثير من الأحيان، ليتمكن من رسم الصور بتفاصيلها الغنية، من دون أن يسلم من التعليق والتدخل بغية المزيد من الإضاءة على الحدث أو الشخصية.

كيف يفكر العاشق وكيف يتصرف، وما الحالات التي يمر بها، والتي تدعوه إلى اتخاذ هذا الطريق أو ذاك في علاقته مع معشوقه؟ ذلك هو الحفر العميق الذي ميز قصص المجموعة بظلالها المختلفة على المستوى الإنساني والاجتماعي.

ولعلنا نختم ببضع كلمات للأديب والإنسان دو موسيه عن الرجل والمرأة:

"إن فكر الرجل مشكَّل من المتع والنسيان والتجارب التي عاشها... وأما المرأة فلا تحيا إلا بالحب ولا تموت إلا به، فهي تفكر أو تحلم بشيء ما سنة كاملة، في حين أن الرجل يفكر فيه بيوم واحد".

دو موسيه: شاعر وكاتب فرنسي ولد في باريس عام 1810 وتوفي عام 1857. يعد من الكتاب الرومانسيين، وتمتاز كتاباته بالإحساس العالي والتساؤل حول النقاء وحياة اللهو، وفق المترجم، حيث صدق التعبير عن الألم. ومن أعماله: اعتراف ابن العصر، كتاب لوسي ميرل المفضل، حكايات من إسبانيا وإيطاليا.

-----

الكتاب: الحب بين العاطفة والواقع

الكاتب: ألفرد دو موسيه

المترجم: د. ورد حسن

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2020