يشك المفكرون في كل الأشياء التي تحيط بهم، ويستغرقون في أفكارهم للوصول إلى الحقيقة. إنهم يستخدمون مهاراتهم في التفكير الناقد لاستنتاج المعلومات.

قبل الميلاد، بدأ سقراط البحث في مهارات التفكير النقدي من أجل الوصول إلى الحقيقة، ومن بعده ظهر هذا النمط عند الكثير من الفلاسفة والعلماء في مختلف العصور التاريخية، وصولاً إلى العصر الحديث. وفي القرن الواحد والعشرين بدأت الحاجة إلى إتقان مهارات التفكير الناقد تزداد في المجالات كافة، وتحديداً في مجالي التعليم والإعلام.

عرف "إدوارد كليسر" التفكير الناقد بأنه الميل إلى التفكير العميق في المشاكل والمواضيع التي ترد في مجال خبرة المرء، والإحاطة بنهج منطق الأسئلة وتعليلها، وبعض المهارة في تطبيق هذا النهج. أما "جون ديوي" الفيلسوف والمدرس وعالم النفس الأمريكي الذي اعتبره كثيرون أباً للتفكير الناقد المعاصر، فقد أسماه التفكير التأملي، وعرفه بأنه اعتبار فاعل (أي أن تفكر بنفسك وتلقي الأسئلة بنفسك وتستنتج المعلومات بنفسك)، ومتشبث وحذر (أي هنا يميزه عن التفكير غير التأملي الذي قد نضطر معه لاتخاذ قرار سريع من دون تفكير وحذر). وفي رأيه فإن هذا النمط من التفكير يعوّل كثيراً على الأسباب وتعليلها وبراعة هذا التعليل (وبراعة هذا التعليل هي فعلاً ما يعول عليه)[1].

فرويد

لقد مارس "سقراط" هذا النوع من التفكير ممارسةً فعليةً من خلال منهجه الذي اتبعه طريقاً إلى التفلسف، وحواره الدقيق الذي كان يجريه مع من يعتقد أنه يمتلك المعرفة والحكمة، وطرح الأسئلة على محاوريه من أجل الوصول إلى الحقيقة، فكان هذا التحليل هو جوهر التفكير الناقد. وبعده ظهر هذا النمط عند كل من "أفلاطون" و"أرسطو" والشكاك اليونانيون، حيث ركزوا جميعاً على أن الأشياء تبدو لنا عامةً مختلفةً عما هي عليه، والعقل المتدرب وحده يكون على استعداد لأن يرتفع عن الأشياء كما تبدو لنا عن السطح (المظاهر الخادعة)، إلى الأشياء كما هي عليه في الحقيقة (تحت السطح)، فبرزت الحاجة إلى التفكير بشكل نسقي، وإلى تتبع ما يترتب على ذلك بشكل واسع وعميق، حتى يمكن للتفكير الشامل العقلاني والقادر على مواجهة الاعتراضات أن يأخذها بعيداً عن القشرة السطحية.

أما من كتاب العصور الوسطى الذين جسدوا هذا النوع من التفكير، فيأتي "توما الأكويني"، والذي رأى أن أولئك الذين يفكرون بشكل نقدي لا يرفضون الاعتقادات القائمة، بل تلك التي تفتقر إلى الأسس المعقولة. وفي عصر النهضة بدأ سيل من المفكرين في أوربا التفكير بصورة ناقدة حول الدين والفن والمجتمع والطبيعة الإنسانية والقانون والحرية، اعتقاداً منهم أن الحياة الإنسانية بحاجة إل التحليل والنقد. وفي العصور الحديثة برز "فرنسيس بيكون" كأول مساهم حقيقي في وضع المنهج الاستقرائي؛ حيث يعدّ كتابه (الأورغانون الجديد) أحد النصوص المتقدمة في التفكير النقدي. أما في "فرنسا" فقد طوّر "ديكارت" منهجاً في الفكر الناقد قائماً على مبدأ الشك المنهجي، فكل شيء عنده لا بدّ أن يوضع موضع التساؤل والشك والاختبار. كذلك "لوك" في "إنكلترا" فقد نظر إلى العقل الناقد على أنه يتيح منافذ جديدة للتعليم، كما وضع أساساً نظرياً للتفكير الناقد الذي يدور حول الحقوق الإنسانية الأساسية ومسؤوليات جميع الحكومات للخضوع للنقد العاقل للمواطنين المفكرين. ومثل هذا التفكير نجده عند كثير من العلماء مثل "إسحق نيوتن" و"فولتير" و"ديدرو".

وفي القرن التاسع عشر، امتد مجال التفكير الناقد بشكل أوضح في ميدان الحياة الاجتماعية على يد "أوغست كونت" و"هربرت سبنسر"، وطبّقه "كارل ماركس" في مشكلات الرأسمالية، و"داروين" على تاريخ الثقافة الإنسانية وأساس الحياة البيولوجية، و"سيغموند فرويد" في مجال اللاشعور وفي الثقافة واللغة. أما في القرن العشرين فنجده قائماً عند "وليم غراهام سمنر" في مجال التربية، والذي انتقد طريقة التعليم في المدارس، على أساس أنها تنتج في النهاية أشخاصاً من نمط واحد، كما لو كانوا شرائح خشبية متماثلة[2].

التعلم والتعليم

يرى "مارتن لوثر كينغ" أن وظيفة التعليم، هي تعليم الفرد كيف يفكر بفاعلية، كذلك أن يفكر نقدياً، ويقول: إن التعليم الجيد والكامل يعطي الفرد ليس فقط القدرة على التركيز، وإنما أيضاً يعطيه الأهداف ذات القيمة رفيعة المستوى التي يجب أن يركز عليها.

وعلى الرغم من صعوبة استخدام التفكير الناقد في المراحل الأولى من التعليم لصعوبة استيعاب الأطفال لهذا النمط من التفكير، فإنه يتضمن مجموعةً من الإيجابيات، كأن يتعلم كيفية إثارة الأسئلة الجيدة وكيفية التفكير فيها تفكيراً ناقداً يسهم في تحقيق التقدم في مجال التعلم والتعليم واكتساب المعرفة، طالما أن هناك أسئلة تثار وتعالج بجديّة. أما المدرّس فيجب النظر إليه كقدوة من خلال الأدوار التي يمكن أن يقوم بها كوضع خطة لعملية التعليم، وإعداد المناخ الصفي، ودوره في المحافظة على التواصل، وأن يكون مصدراً للمعرفة، وأن يقوم بدور السابر من خلال طرح أسئلة عميقة ومتخصصة تتطلب دعماً أو تبريراً لأفكار التلاميذ وفرضياتهم واستنتاجاتهم، كما عليه أن يقوم بدور القدوة من خلال سلوكه[3].

يشكل التفكير الناقد ركيزةً قويةً راسخةً في مواجهة الإشكاليات الإدارية التربوية، لأنه يدور حول عمليات عقلية مهمة كالتحليل والتركيب وتقييم المعلومات والبيانات، وأيضاً حول صياغة المقترحات على أساس علمي، ويعكس معنى ودلالة ومضمون الأحداث، وكذلك إصدار الأحكام الدقيقة والرصينة من خلال فحص ودراسة الدلائل المتوافرة. لذلك فإن هناك علاقة وثيقة الصلة بين التفكير الناقد وتحقيق الإدارة الناجحة في أي مجال خاصةً التعليم والتعلم، فهو يمثل أداة المدرّس في غرفة الصف. أيضاً من خلاله يمكن رسم الاستراتيجيات التربوية الرشيدة التي تقوم على مبدأ المخاطرة المحسوبة بدقة. ومن خلاله يمكن التعامل مع الأزمات بهدوء ومن دون انفعال. وتظهر قوة هذا النمط في توضيح طبيعة العلاقة الإنسانية بين جميع أطراف العملية التعليمية؛ حيث يمكّن من وضع الحلول المناسبة لأزمات ومشكلات التعلم والتعليم، والارتقاء بالفهم العميق لهذه الأزمات وأسبابها وأساليب مواجهتها بفاعلية[4].

الإعلام والتفكير

إن استخدام مهارات التفكير الناقد هي أهم عناصر التعامل الواعي مع وسائل الإعلام الذي يفرز ما هو سلبي ورديء، وما هو إيجابي ونافع، وما بينهما. كما أن إتقان هذه المهارات يساهم في بناء الوعي الإعلامي لدى المتلقي، وتساعده على تجنب فخ التضليل والإثارة الإعلامية، وتساعده في أن يكون متلقياً إيجابياً قادراً على انتقاء المضمون الإعلامي وتحليله وتقويمه. كذلك تزداد أهمية هذا النمط من التفكير في التعامل مع وسائل الإعلام في أوقات الحروب والأزمات والصراعات والأحداث الكبرى حول العالم. ويتضمن الوعي الإعلامي مهارة حُسن الاختيار والتواصل والمشاركة في صياغة الرسالة الإعلامية والتأثير فيها وإنتاج المحتوى الإعلامي، وهي مهارات تمثل السلوك الواعي إعلامياً.

وتكون مهارة التفكير الناقد أكثر أهمية وأشد إلحاحاً عند التعامل مع وسائل الإعلام الجديد، والإنترنت بصورة عامة، لأنّ الأمر يزداد تعقيداً مع غموض وعدم وضوح الشخصيات الحقيقية التي تتفاعل في إطار الإعلام الجديد. كما أن الحرية التي لا تحدّها حدود الزمان والمكان والرقابة تتيح نشر أخبار غير صحيحة وشائعات وأفكار خاطئة، يمكن أن تقود إلى ارتباطات مدمرة بشبكات الجريمة المنظمة والإرهاب وغسيل الأموال والمخدرات، وغيرها من المخاطر المحتملة[5].