لم يكن أبيقور ليطمع فيما طمع إليه "أفلاطون" و"أرسطو" من تأسيس الأنظمة السياسيّة، أو خلق قواعد تسير عليها الحكومات، أو تشريع الدساتير والقوانين، إنّما كان همه أن يخلّص النفس البشريّة مما يحيط بها من مخاوف (ما وراء الطبيعة)، وأن يحقق ما يسميه بالحرّية الأخلاقيّة، لهذا أطلقوا عليه اسم المنقذ أو المخلّص.

وُلد "أبيقور" في جزيرة "ساموس" سنة 341 قبل الميلاد، وكان أبوه معلّماً في إحدى المدارس الإغريقية، وأمّه ساحرة، تذهب إلى المنازل لتلاوة الرّقى والتعاويذ. وقد كان "أبيقور" وهو صبيّ يصحب أمّه في هذه المنازل، ويرى كل ما تصنعه فيها، وقد تفرّغ بكل قواه لدراسة الفلسفة في شبابه، حيث كان كل من "بانفيل" الأفلاطوني و"فوزيفان" الديموكرني أستاذين له في أول عهده بالفلسفة[1].

وفي عمر الرابعة عشرة سافر لحضور دروس الفيلسوف الأفلاطوني "بامفيلوس"، والفيلسوف الذري "نوسيفانيس"، لكنّه أدرك عدم قدرته على الموافقة على كثير مما علّموه إياه، فقرّر في نهاية عشرينيات عمره تنظيمَ أفكاره، بحيث يؤسس فلسفته الخاصّة للحياة[2].

كان "أبيقور" ضعيف البنية، لكنّه عزيز النفس، شديد التجلّد للمرض، كثير الاعتداد بنفسه، يدّعي أنّ مذهبه وليد فكره، ويأبى أن يعترف بفضلٍ عليه لأحد ممن عاصره من الفلاسفة، فهاجمهم جميعاً، لكنّه كان طيب القلب مع أصدقائه وتلاميذه بارّاً بهم، وكانوا هم يحبّونه ويجلّونه أكبر إجلال. والحقيقة أنّ "أبيقور" كان يشبه "سقراط" والسقراطيين في الرغبة عن كل علم لا يتّصل بالأخلاق، ولا يعود بفائدة من هذه الجهة، فالأخلاق عنده محور الفلسفة وغايتها، يخدمها العلم القانوني (المنطق) والعلم الطبيعي[3].

بعد عودته إلى "أثينا" عام 306 قبل الميلاد وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، عثر على منزل كبير على بعد عدّة أميال من مركز "أثينا"، وانتقل إلى السكن فيه مع مجموعة من أصدقائه، منهم "مترودوروس" وأخته، وعالم الرياضيات "بوليانوس"، وهرماركوس" و"ليونتيوس" وزوجته "ثيميستا"، وتاجر يدعى "إيدومينيوس" الذي تزوّج أخت "مترودوروس" بعد فترو وجيزة، حيث كان منزله يشبه منزل عائلة كبيرة، تعيش دون نكد أو إحساس بالضيق، فليس هناك سوى التعاطف واللطف، فـ "أبيقور" كان مدركاً أن مجموعة صغيرة من الأصدقاء الحقيقيين، قد تمنحنا الحب والاحترام اللذين قد تعجز الثروة عن منحهما[4].

وفي حديقة منزله الجميلة أسس مدرسته، فأقبل عليها الشبّان والشابات دون أن يفرق بين طبقة وأخرى، بل وقيل إنه كان يقبل فيها العبيد على النحو الذي لم يكن مألوفاً عند الإغريق. ومن أشهر تلامذته الذين كان لهم شأن فيما بعد "هيرمارك"، الذي خلفه على رئاسة مدرسته، أيضاً "ميترودور "و"بوليانوس" و"كولوتيس" و"إبيرومينية".

ولم يكن هذا الفيلسوف ليطمع فيما طمع إليه "أفلاطون" و"أرسطو" من تأسيس الأنظمة السياسيّة، أو خلق قواعد تسير عليها الحكومات، أو تشريع الدساتير والقوانين، بل لم يكن يفكر في الوطن وعظمته، إنّما كان همه أن يخلّص النفس البشريّة مما يحيط بها من مخاوف (ما وراء الطبيعة) وأوهامها، وأن يحقق ما يسميه بالحرّية الأخلاقيّة، لهذا أحبّه الناس كثيراً، وبادروا إلى اعتناق مذهبه الذي رأوا فيه طلائع خلاصهم من الآلام والأوهام، وأطلقوا عليه اسم المنقذ أو المخلّص[5].

سجل "أبيقور" أخلاق مدرسته في إحدى الرسائل التي بعث بها إلى أنصاره، وقد احتوت على مبدأ وهو أن غايةَ كل حي (اللذّة)، ولما كانت طبيعة الإنسان تشبه طبيعة الحيوان، الذي يندفع بغريزته إلى تحصيل اللذّة والفرار من الألم، فقد وجب أن تكون اللذّة مرمى الجميع، ومحاولة إبعاد الإنسان عنها، هي محاولة لإقصائه عن طبيعته، فالإنسان لا يصل إلى مرتبة الحكمة إلّا بعد شعوره بالهدوء التّام، وهذا الهدوء لا يتحقّق إلّا بخلو الجسم من الآلام والرّوح من الاضطرابات، وهذا الخلو لا يتيسّر إلا بتحقيق اللذّتين السلبيّة التي هي عدم الإحساس بالألم في حال السّكون، والإيجابيّة التي هي الشعور بالسرور في حالة الحركة، وعلى هذا المبدأ تأسّست الاخلاق الأبيقوريّة، وهو مبدأ جلي صريح في جعل اللذّة الجسميّة غاية الحياة ومرماها، لكنّه صريح أيضاً في أن اللذّة إذا وصلت إلى حدّ إحداث اضطراب في الجسم أو الروح، انقلبت إلى رذيلة[6].

وعندما أراد "أبيقور" تعريف اللذّة، فإنه لم يعرّفها كما عرّفها "أرسبطس" بأنها حركة لطيفة، بل رجع إلى الصورة السلبيّة من اللذّة، فقال بأنها التحرر من الألم، غير أنه لم ينكر ناحية اللذّة الإيجابية، لكنّه جزم بأن الناحية السلبيّة (وقصد بها راحة العقل) أساسية في الأخلاق، في حين أن الحركة اللطيفة التي تتكون منها اللذّة الإيجابية أمر ثانوي يأتي عفويّاً، فالرغبة غير المكفيّة ألم، والألم يحطّم هدوء العقل، ولهذا السبب وحده يجب أن نقنع رغباتنا. ومن هذا الطريق تصبح اللذّة الإيجابية جزءاً من الخير الأسمى. وعند "أبيقور" اللذّة العقلية أسمى درجات اللذّة، أي المعرفة والذكاء وغيرها من الأشياء التي تحرر النفس من الحقد والخوف، وتساعد على هدوء العقل والبال. لهذا يجب على الحكيم ألا يجعل أمله في السعادة محصوراً في لذائذ الحس، بل يتسامى إلى أفق اللذّة العقليّة[7].

قيل إن "أبيقور" ألّف 300 كتاب في جميع المجالات تقريباً، من بينها كتب عن الحب والموسيقا والتعامل العادل، وكتاب في أربعة أجزاء عن الحياة البشريّة، وآخر في 37 جزءاً عن الطبيعة، لكن بسبب سلسلة من الحوادث ضاعت معظم هذه الكتب عبر القرون، لتتم إعادة جمع فلسفته عبر شذرات قليلة باقية، إضافةً إلى شهادات الأبيقوريين الآخرين.

وقلّة هم الفلاسفة الذين صرّحوا باعترافات صارخة إلى هذا الحد، بشأن رغبتهم بنمط حياة قائم على اللذّة. ورغم الانتقادات التي تعرّضت لها تعاليم "أبيقور"، إلا أنها استمرّت باجتذاب الدعم، إذ انتشرت في منطقة البحر المتوسط، حيث أسست مدارس للذّة في "سورية" و"مصر" و"إيطاليا" و"الغال"، وبقي تأثير هذه الفلسفة طاغياً 500 عام، حيث بدأ يتلاشى تدريجيّاً بفعل صرامة الهمجيين إبّان فترة سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة في الغرب[8].

توفي "أبيقور" سنة 207 قبل الميلاد، بعد أن مرض مرضاً قاسياً، لا يكاد إنسان يقوى على احتماله، لكنّه خلال وطأة المرض الثقيلة كان يقابل الآلام بشجاعة واحتمال، وبهدوء وابتسام.

-----

المراجع

[1] أبيقور مؤسس الفلسفة الأبيقورية، كامل محمد عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1994. ص 26.

[2] عزاءات الفلسفة، آلان دوبوتون، ترجمة: يزن الحاج، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2016، ص 63.

[3] تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 257- 258.

[4] عزاءات الفلسفة، مرجع سابق، ص 70- 71.

[5] أبيقور مؤسس الفلسفة الأبيقورية، مرجع سابق، ص 27- 29.

[6] المرجع السابق، ص37.

[7] فلسفة اللذة والألم، اسماعيل مظهر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الطبعة الأولى 2014، ص 67.

[8] عزاءات الفلسفة، مرجع سابق، ص 63- 64.