"الفارابي" أول واضع لأسس مذهب الأفلاطونية المحدثة في صورته الإسلامية، هذا المذهب الذي تنتسب إليه المدرسة التي عرفت في الإسلام باسم "مدرسة الفلاسفة". كما استمد فلسفته من منبعين أساسيين، الأول الإسلام، والثاني الفلسفة اليونانية المتمثلة بـ "أفلاطون" و"أرسطو"، إضافةً إلى مدرسة "الإسكندرية" المتمثلة بـ "أفلوطين" وأتباع المدرسة الجديدة.

رغم وفرة ما كتب عن "الفارابي" قديماً وحديثاً، فإنّ تفاصيل كثيرة من سيرة حياته لا تزال مجهولة، فالمصادر الأساسية لسيرة حياته، والمراجع والموسوعات التي تمت ترجمتها "للفارابي" على تلك المصادر الأساسية، لم يسلم واحد منها من الاضطراب والخلط في المعلومات التي أوردتها عن سيرة فيلسوفنا الكبير.

ونسبه أيضاً لم يسلم من الشّك ولم يقطع به أحد من المؤرخين، سواء القدماء أو المحدثون، فمنهم من جعله فارسي النسب، مثل "القاضي بن صاعد الأندلسي" و"ابن أصيبعة الخزرجي"، ومنهم من جعله تركي النسب كما فعل "صلاح الدين الصفدي"، باعتباره ولد في مدينة "فاراب" والتي سُميت "أطرار" من بلاد "تركستان"، وتعرف عند العرب بما وراء النّهر. بينما زعم بعض المحدثين أن "الفارابي" عربي الأصل موطناً وثقافة. وقد كانت سلسلة نسبه أشدّ مثاراً للاختلاف، وأكثر اضطراباً واختلاطاً، حيث ذهب "ابن أصيبعة" إلى أنه "محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان"، وذهب "ابن صاعد" إلى أنه "محمد بن محمد بن نصر"، ويقول في موضع آخر أنه "محمد بن نصر"[1].

كان "الفارابي" ذكي النفس، متجنباً عن الدنيا مقتنعاً منها بما يقوم بأوده، يسير سيرة الحكماء المتقدّمين، وكان هادئ الطبع، عاكفاً على الفلسفة، كثير التأمّل، وكان زعيم أكبر فرقة فلسفية في عصره "المتكلمين"، وكان "للكندي" الفضل الأكبر في تمهيد سبيلها، تخصصت بالإلهيات وما وراء الطبيعة، وكان ظهورها في "مرو"، وكانت قبل ذلك الانفصال تتبع "فيثاغورس"، ثم تنحت عنه وعن أتباعه وتعلقت "بأرسطو"، بعد أن ألبست تعاليمه ثوب مبادئ "أفلاطون" المستحدثة. كانت هذه الفرقة تبحث الأشياء في مبادئها، وتتحرى المعنى والفكرة والروح، وكانت تقدر الأشياء بوجودها، فتسعى في إثبات ذلك أولاً. وكان الفارابي رئيس هذه الفرقة وزعيمها والمقدم فيها وإليه المرجع وعليه الاعتماد[2].

سئل "أبو النصر": من أعلم، أنت أو "أرسطو"؟ فقال: "لو أدركته لكنت أكبر تلاميذه". وقال: "قرأت السماع "لأرسطو" أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودته". ويرجع "للفارابي" الفضل في ضبط وتعيين كتب "أرسطو"، وتخليصها من غيرها قبلترجمتها وشرحها، وله الفضل في أن تلاميذه ورفاقه في الدرس وأحبابه، هم الذين تصدوا إلى نقل "أرسطو" إلى اللغة العربية. وقد سار من جاء بعده على سننه واتبعواخططه. وقد بلغتنا كتب "أرسطو" منقولةً إلى اللغات الأوروبية القديمة والحديثة على النسق الذي اختاره الفارابي. أما الترتيب الذي وضعه فهو، أولاً: كتب المنطق الثمانية قاطيغورياس (المقولات)، هرمنطقي (فن التفسير)، التحليل الأول (القياس)، التحليل الثاني (البرهان)، طوبيقا (الجدل)، السفسطة، البلاغة، الشعر. هذه هي الكتب التي وضع لها "فرفوريوس"، وهو أحد حكماء الإسكندرية وتلميذ بونتين، مقدمة "إيساغو". ثانياً: كتب الطبيعيات الثماني وهي الطبيعيات، كتاب السماء والعالم، الكون والفساد، علم الجو، علم النفس، الحس والمحسوس، كتاب النبات، الحيوان، ثم الكتب الثلاثة وهي ما وراء الطبيعة، الأخلاق، السياسة. وهذا هو الوضع الذي عينه "الفارابي"، بعد طول الإمعان والدرس، وهو الذي سارت عليه الحكماء من عهده إلى وقتنا هذا. إن فضل الفارابي من هذه الوجهة لا ينكر، ولا عجب إذا سمي "المعلم الثاني"، ونحن نسميه "أرسطوطاليس" العرب[3].

ويمكن تلخيص مذهب "الفارابي" في ناحيتين، الأولى: اعتماده في تصنيف العلوم على موقف الإنسان المعرفي من موضوعات العلوم المختلفة، حيث إن هناك صنفاً من الموضوعات تطلب المعرفة فيها لذاتها، والإنسان يعرف هذه الموضوعات، لكن لا دخل له في فعلها، وهذا الصنف من الموجودات تدرسه العلوم النظرية. أما الصنف الثاني من الموضوعات، فهي تُطلب من أجل المنفعة المتوخاة من تحصيلها، والإنسان يعرف هذه الموضوعات ويستطيع فعلها، وهذا الصنف الثاني يُبحث عنه في العلوم العمليّة. أما الناحية الثانية التي تبين مذهب "الفارابي" في تصنيفه للعلوم، فهي موقف الفيلسوف من حيث الغاية القصوى من تحصيل العلوم، وهو يتجه في هذا اتجاهاً أخلاقياً عاماً، حيث يرى أن غاية الإنسان النهائية هي تحقيق السعادة، فمتى حصلت له لا يسعى إلى غاية أخرى، والسعادة برأيه تتحقق بالاكتساب من التأمل، أي من الفلسفة أو الحكمة، وتأمل موضوعاتها الإلهية. هذا فضلاً عن أن الإنسان يطلب السعادة أيضاً من وراء ممارساته العمليّة في حياته، وتلك هي المنفعة القصوى التي يجنيها من معرفة العلوم العملية[4].

ويعتبر "الفارابي" أول واضع لأسس مذهب الأفلاطونية المحدثة في صورته الإسلامية، هذا المذهب الذي تنتسب إليه المدرسة التي عرفت في الإسلام باسم "مدرسة الفلاسفة". كما استمد فلسفته من منبعين أساسيين، الأول الإسلام، والثاني الفلسفة اليونانية المتمثلة بـ "أفلاطون" و"أرسطو"، إضافةً إلى مدرسة "الإسكندرية" المتمثلة بـ "أفلوطين" وأتباع المدرسة الجديدة. أما اعتبار الإسلام منبعاً أساسياً لفلسفته، فهذا شيء طبيعي، ذلك لأنّ "أبا نصر" وإن كان يعتبر مؤسس الفلسفة - بمعناها اليوناني الواسع – في الثقافة الإسلامية، فإنه لم يخرج عن كونه مسلماً نشأ في بيئة إسلامية، واطلع على المبادئ والعلوم الإسلامية كأي مثقف مسلم قبل أن يبدأ في التفلسف[5].

وقد أضاف "الفارابي" إلى حب الحكمة شغفاً زائداً بالموسيقى، ويروى من أخباره أن "سيف الدولة" كان من المعجبين بتفننه في الأنغام، وقد أفاد العرب صنع آلات الطرب ووضع قواعد التوقيع. وروى "ابن أبي أصيبعة" أنه صنع آلةً إذا وقع عليها أحدثت انفعالاً في النفس، فيُضحك السامع ويبكيه ويستخفه ويستفزه. وقال بعضهم إنها شبيهة بالقانون المعروف لعهدنا هذا أو هي القانون بذاته. ومن مؤلفاته كتابان في الموسيقى، الأول يشمل بياناً كافياً لنظريات علم الأنغام، وقد فحصه العلامة "كورسجارتن" المستشرق وحلّله. كما أنه وضع كتاباً آخر خصصه لوصف طرائق الأقدمين، وجاء في النسخة المحفوظة في "الإسكوريال" أن "الفارابي" شرح آراء الأقدمين، وبيّن ما أحدثه كل عالم من علماء الموسيقا، وصحح أغلاطهم وملأ الفراغ الذي تركوه في تلك الصناعة. أما أسلوبه بالعربية فكان دقيقاً رشيقاً، مع أنه كان فارسي الأصل، ويؤخذ عليه حبّه للمترادفات، مما كان يؤدي في بعض الأحيان إلى التوسع في المعاني الفلسفية، التي تحتاج إلى التحديد والتعيين وتقيد كل معنى بلفظه وكل لفظ بمعناه[6].

عاش "الفارابي" طويلاً، واشتغل بالعلم في "بغداد"، ثم ذهب إلى "حلب" بسبب اضطرابات سياسية، حيث أقام في ظلال بلاط الأمير "سيف الدولة"، لكنه في الأيام الأخيرة من حياته اعتزل خدمة الأمراء، وعاش معتكفاً، وتوفي في "دمشق" أثناء رحلة له، وذلك في شهر كانون الأول 950 ميلادية[7].

-----

المراجع:

[1] الفارابي، حياته آثاره فلسفته، أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1990، ص 7- 8- 9.

[2] تاريخ فلاسفة الإسلام، محمد لطفي جمعة، مؤسسة هنداوي للطباعة والنشر، ص 34- 35- 36.

[3] المرجع السابق، ص 36- 37.

[4] الفارابي حياته آثاره فلسفته، مرجع سابق، ص 82- 83.

[5] المرجع السابق، ص 91- 96.

[6] تاريخ فلاسفة الإسلام، مرجع سابق، ص 48- 49.

[7] المرجع السابق، ص 50.