يجهل الكثير منَّا، أسرار صحة أجسامنا، ووظائف عمل أعضائها الداخلية بالشكل الأنسب وطرق تعزيز سلامتها، وما تمَّ اكتشافه بخصوص النظم البيولوجية المسؤولة عن عمل تلك الأعضاء ودور الوقت في صحة الإنسان ومرضه، ضمن ما أطلق عليه اسم "علم البيولوجيا الزمنية" أو "علم الحياة الزمني".

استوقفني كتاب حمل عنوان "البيولوجيا الزمنية- دور الوقت في الصحة والمرض" لمؤلفه الدكتور "حسان أحمد قمحية" الذي تناول عبر صفحاته البالغ عددها 142 صفحة تعريفاً بتاريخ ظهور هذا العلم قبل ما يزيد عن ثلاثين عاماً، والأهمية التي اكتسبها في ميادين الطب على نحو خاص؛ حيث يهتم هذا العلم بكيفية تشكيل الأحداث المرتبطة بالوقت والمتعلقة بردود أفعال البشر أو بتفاعلاتهم البيولوجية اليومية، وتطبيقها على جوانب الطبِّ المختلفة، خاصةً ما يتعلَّق منها بالتغيرات الفيزيولوجية المرضية والاستجابة للمعالجة Pathophysiology. وكمثال بسيط عن ذلك، يذكر المؤلف أن الأحداث اليومية الطبيعية التي تشهدها أجسامنا على مدار 24 ساعة كالهبوط الشديد في مستويات هرموني "الأدرينالين" و"الكورتيزول" الذي يحدث قرابة الساعة العاشرة ليلاً، ولغاية الرابعة فجراً، تترافق بزيادة مستوى هرمون "الهيستامين" إضافة إلى الوسائط الأخرى المترافق حدوثها بذات الفترة من الوقت، هذه الزيادة في نسبته تؤدي إلى تفاقم حالات مرض "الربو" خلال فترة الليل عند غالبية المرضى.

يشير علم "البيولوجيا الزمنية" إلى دورة الليل والنهار وتأثيرها في حياة الكائن البشري، نظم الساعة البيولوجية للإنسان Cirdacian rhythm human يتولد إيقاعها، ونظامها بواسطة مذبذب داخلي المنشأ يتبع دورة تقريبية مدتها 24 ساعة، ويقدر النظم اليوماوي البشري بحدود 24.2 ساعة، لكنه قد يتراوح ما بين 23.5-24.5 ساعة. تعدُّ "النواة فوق التصالبة" التي تتوضَّع في المنطقة الأمامية من "الوطاء" (موجودة تحت المهاد في الدماغ) الساعة الحيوية الرئيسية لدى معظم الثدييات ومنها الإنسان، والضوء هو أقوى مزامن بيئي أو محيطي تستخدمه تلك النواة في عملها؛ لذا نجد أن سرعة ضربات قلب الإنسان وضغط الدم لديه يزدادان عند الاستيقاظ الصباحي، كما أن الصفيحات الدموية تميل إلى التكدس والتراكم ومعها عوامل التخثر الأخرى، من هنا، تزداد حالات النوبات القلبية خلال تلك الفترة. أيضاً، يبلغ الإنسان أفضل مستوى لأدائه الذهني والجسدي في فترة ما بعد الظهر، هذا يشير إلى أن الخلايا والأنسجة وعموم أعضاء جسم الإنسان تعمل من خلال دورة من تغيُّر النشاط والوظيفة.

بعد ذلك يعرِّفنا المؤلف على تاريخ علم "البيولوجيا الزمنية" الذي ظهرت بداياته عام 1729 على يد عالم الفلك الفرنسي "جان جاكدي ميران" Jean JacquesdeMairan الذي بيَّنت دراساته التي أجراها على بعض أنواع النباتات مثل زهرة "الميموزا" وأزهار نبتة "كلكنكده بلوس فلديونه" أنَّ هناك تأثيراً آخر غير الضوء والظلام في النظم البيولوجية قائم على أساس بيولوجي داخلي، لا مثلما كان رأي معظم الاختصاصيين بعلم النوم، والذين رأوا بأنَّ هذا العلم هو جزء مشروع من أبحاث طبِّ النوم، عزز رأي العالم "تشارلز داروين" ما وصل إليه العالم الفرنسي، مؤكدين أن النوم يمكن أن يؤثر سلباً في الفيزيولوجيا المرضية للمشاكل الصحية بحياة الإنسان ومعها الدواء. فعلياً، فإن أبحاث علم "البيولوجيا الزمنية" قد بدأت خلال القرن العشرين الماضي، ومن أبرز علمائها الروَّاد: "ويلهلم بيفر" WilhalmPfefferو"إيروينبوينينغ" Erwin Bunning ومعهم "جورغن آشون" وآخرون.

تقسم النظم البيولوجية لدى الكائنات الحيَّة إلى ثلاثة أنواع هي: النظم دون اليومية والتي تستمر لأكثر من 24 ساعة، وبشكلٍ أدق هي النظم التي تتقلب على فترة تزيد عن 28 ساعة حيث لا تتكرر إلا كل بضعة أيام أو أسابيع أو أشهر أو حتى لمرة واحدة في العام، وبذلك يكون تواترها أقل من تواتر النظم اليومية. ثانيها هي النظم البيولوجية فوق اليومية، وتكون مدتها عادة أقصر من 20 ساعة ومثالها دورة الجهد والتعب لدى الإنسان البالغ والتي تحدث بمقدار مرة كل ساعتين، وهي مسؤولة عن تنظيم الوظائف الجسدية والانفعالية (العاطفية) والروحية، وتستمر لعدة ساعات من اليوم، كما تشمل عمليات تناول الطعام وجريان الدم وإفراز الهرمونات ومنحى الأداء البشري. النوع الثالث هي النظم اليومية والتي يستغرق زمنها نحو 24 ساعة، ومثالها دورة النوم واليقظة لدى الإنسان وتأثيرها مباشر فيه، لذا هي أكثر النظم التي خضعت للبحث على نطاق واسع.

ما ذكرنا سابقاً استخلصناه من قراءة الباب الأول في الكتاب والمعنون "ملامح البيولوجيا الزمنية"، وفيه أيضاً إشارة إلى استخدام هذا العلم في وقتنا الراهن بالدراسات المتعلقة بعلم "الوراثة" والغدد الصمَّاء" وعلم "البيئة" وكذلك بمجالات الطبِّ الرياضي وعلم "النفس". هذا دفع المتخصصون في الطب من الباحثين لرؤية منافعه، من خلال وصف الأدوية المناسبة والوقت المناسب لإعطائها، وفعاليتها فيه.، كذلك، تحديد الوقت المناسب من اليوم لممارسة الرياضة والنشاط البدني، يندرج ذلك تحت مسمى "البيولوجيا الزمنية الدوائية"، حيث تمَّ رصد نحو 80 مرضاً مرتبطاً بعملية النوم لدى الإنسان، وفيه يكون لهذه البيولوجيا دورٌ بتحديد المكون البيولوجي اليومي لتلك الأمراض واختيار الأدوية والمكملات الغذائية المساهمة في عملية ضبط المنظِّم الزمني لدى الإنسان المريض.

في هذا الباب أيضاً إشارة إلى هرمون "الميلاتونين" Melathonin حيث يعتبر الهرمون الأساس الذي يقوم عليه علم "البيولوجيا الزمني" وعلاقته بتأثيرات الضوء والظلام اللذين حظيا بأهمية بالغة في بعض الدراسات المتعلقة بهذا العلم. فمثلاً: يزداد مستوى هذا الهرمون في الجسم عند الساعة 11 ليلاً بما يقارب عشرة أضعاف قيمته الطبيعية خلال ساعات النهار؛ ما يعطي إشارةً لبعض أعضاء الجسم كي تبطئ من نشاطها وتجدِّد نفسها، لكن عند كبار السنِّ تختفي تلك الزيادة، ما يؤدي إلى عدم انضباط بعض النظم كالنوم ودرجة حرارة الجسم وضغط الدم. هنا تكون الحاجة إلى تقديم دعم بيولوجي زمني لهم، كون عمل بعض الساعات الداخلية يصبح أبطأ مع تقدم الإنسان في السن وساعات أخرى تدق بسرعة أكبر، وأخرى تخرج عن نظام عملها المعتاد وقد تتوقف نهائياً، فتبدأ بعض أعضاء الجسم بتطوير نظم بيولوجية جديدة؛ ما يحدث الاضطرابات والمشاكل الصحية، وإذا لم تتم معالجتها، حينها، سوف تظهر العديد من الأمراض في وقت لاحق.

جاء عنوان الباب الثاني من هذا الكتاب تحت مسمى: تطبيقات عملية على "البيولوجيا الزمنية"، حيث تناول علاقة هذا العلم بعدد من الأمراض وتطبيقاته عليها، مثل علاقة النوم الوطيدة مع وظائف المناعة الخاصة بجسم الإنسان وتأثيره على زيادة إفراز "الخلايا النائية الساذجة غير المتمايزة" لمواد مناعية تدعى "السيتوكينات" المعززة للالتهابات، حيث يسهل النوم من تسرب تلك الخلايا إلى العقد اللمفاوية. أما فيما يتعلق بأمراض القلب والأوعية الدموية، التي تشير الأدلة إلى وقوع حوادثها المفاجئة في أوقاتٍ محددة من اليوم أو الأسبوع أو في الشهر والسنة، حيث أنَّ سرعة ضربات القلب وضغط الدم يزدادان ببطء خلال اليوم مع تراجع هرمون الشدَّة "الكورتيزول"، لذا يوصينا علم "البيولوجيا الزمنية" بحلاقة الذقن في الساعة 8 صباحاً؛ لأن الصفيحات الدموية المسببة للجلطة تكون أكثر غزارةً في هذا التوقيت، مما هي عليه في أوقات أخرى من اليوم.

ضمن هذا الباب أيضاً إضاءات على العلاقة بين النوم وداء "السكري" لدى الأطفال، والنصائح التي يقدمها بوجوب التقليل من الوقت الذي يقضونه أمام الشاشات من ساعةٍ إلى ساعتين قبل الخلود للنوم؛ لأنَّ الضوء الأزرق المنبعث منها يثبط إنتاج "الميلاثونين" مما يعيق عملية النوم، إضافة لممارساتٍ صحية يجب على الأهل تشجيع الأطفال للاعتياد عليها من أجل تعزيز مناعتهم تجاه ذلك الداء. كما يلقى الضوء على تأثير النظم البيولوجية اليومية في الجهاز الهضمي، وبصحة الجلد والنشاط الجنسي وغير ذلك من الإرشادات الصحية الواجب اتباعها في حياتنا اليومية، وأهمية سلوكنا الصحي وتغييره بما يناسب دور الوقت والنوم خاصة في صحتنا عموماً.

اعتمد المؤلِّف على بعض المراجع العلمية التي قام بالأساس بترجمتها إلى اللغة العربية في وقتٍ سابق وهي: كتاب "يوم من الحياة في جسمك" لمؤلِّفه "جينيفر أكيرمان"، وكتاب "العامل الأنزيمي" لصاحبه الدكتور "هيروميشينيا"، إضافةً لكتاب "الفيسبوك تحت المجهر" وهو من تأليف الدكتور "حسان أحمد قمحية".

----

الكتاب: البيولوجيا الزمنية- دور الوقت في الصحة والمرض

الكاتب: د. حسان أحمد قمحية

الناشر: