الفيثاغورية نهضة عظيمة متعددة الوجهات، وهي مذهب فلسفي يعد أول محاولة للارتفاع عن المادة التي وقف عندها فلاسفة أيونية، وفهم العالم بقوانين واضحة وأعداد معينة، وهي مدرسة علمية عنيت بالرياضة والموسيقى والفلك والطب.

ولد "فيثاغورس" في جزيرة "ساموس" حوالي سنة 570 ق.م، وكانت جزيرة أيونية مشهورة بتجارتها وتقدم الفنون فيها، ولما ناهز 40 عاماً قصد إلى "إيطاليا" الجنوبية، وكان المهاجرون اليونان قد بلغوا فيها درجةً عاليةً من المدنية والثقافة، ونزل "أقروطونا"، حيث كانت مدرسة طبية شهيرة، وما لبث أن عُرف بالعلم والفضل، فطلب إليه مجلس الشيوخ فيما يذكر أن يعظَ الشعبَ ففعل، فذاع اسمه وأقبل عليه المريدون من مختلف مدن "إيطاليا" و"صقلية"، وحتى من "روما"، فأنشأ فرقةً دينية علمية تشبه الأورفية، أخذت عنها، ثم أثرت فيها، وكانت فرقته مفتوحة للرجال وللنساء من اليونان والأجانب على السواء، وكانوا منظمين تنظيماً دقيقاً، ينفذون بما يؤمرون غير ناظرين إلا إلى أن (المعلم قد قال)، وكان المعلم "فيثاغورس" متشبعاً بعاطفة دينية قوية ومقتنعاً بفكرة جليلة، هي أن العلم وسيلة فعالة لتهذيب الأخلاق وتقديس النفس، فجعل من العلم رياضة دينية إلى جانب الشعائر، ووجه تلاميذه هذه الوجهة، فاشتغلوا بالرياضيات، والفلك، والموسيقا، والطب، وشرح "هوميروس" و"هزيود"[1].

وقد أوجد "فيثاغورس" في مدرسته مكاناً خاصاً لقبول النساء، ومنحهنّ الفرصة للتعاون مع الذكور، وقد كان يعلم حق العلم بالفوارق الطبيعية بين الجنسين من جهة وظائف كل منهما، لذلك راح يلقن تلميذاته الشيء الكثير من الفلسفة والآداب والأمومة وتدبير المنزل، ما أدى لاشتهار المرأة الفيثاغورية في الزمن القديم، حتى قيل إنهنّ من أرفع أنموذج في الأنوثة أخرجته بلاد اليونان في جميع العصور[2].

وقد أطلت المعرفة الفيثاغورية على العالم في العقود الأولى من القرن 5 ق.م، وقال "هيرقليطس" إن "فيثاغورس عانى الأبحاث العلمية أكثر من غيره"، كما أشار "أرسطو" إلى أن "فيثاغورس" وجه اهتمامه الزائد إلى الرياضيات والأعداد والأعمال العجيبة. وإذا كانت الفيثاغورية قد قبلت جميع العبادات والطقوس القديمة، فإنها قد وضعت أسساً ومعاني عميقة للتطهير، واستخدمت الموسيقا لعمليات تطهير النفس، كما استخدمت الطب لتطهير الجسد. ويقال إن "فيثاغورس" كان على تأثير في أفكار "أرسطو"، خاصةً ما يتعلق منها بنظرية الحيوات الثلاث: الحياة النظرية، والحياة العملية، والحياة المقدسة[3].

لم يُعرف الكثير عن أتباع "فيثاغورس" خاصةً المعاصرين منهم، وقد كان ينتقيهم ويختار أحسنهم خلقاً ومنبتاً وجدّية في التعليم، وكانوا يستمعون إليه ولا يُسمح لهم برؤيته إلا بعد 5 سنوات، ويقال إن عددهم بلغ 300. وكانت هذه السرية مترتبة على طابع فلسفتهم الديني الصوفي، ذلك لأن معتقداتهم الدينية لم تتلخص من مجرد بعض الأفكار المنطقية المحدودة، وإنما كانت تصدر عن تجربة باطنية أساسها شعورهم الجماعي بالقوة الإلهية السارية في الوجود والحياة الواحدة التي تصل جميع الكائنات ببعضها، لهذا عُدت الفيثاغورية حركة إصلاح وتجديداً في العقيدة الأورفية، التي كانت بدورها حركة إصلاح وتجديد في عبادة "ديونيسوس" السرية.

وقد انتشر الفيثاغوريون في أنحاء العالم اليوناني، خاصةً في مدن "ريجيوم" مع "أرخيبوس" وفي "تارتنا" مع "أرخيتاس" صديق "أفلاطون". ويُعد "فيلولاوس" أعظم رجال الجيل الثاني من الفيثاغوريين، ومن تلاميذه أيضاً "أوريتوس" الذي أسس مركزاً لهذه الفلسفة في "فليبونتس"، وقد استمرت الفيثاغورية 4 قرون بعد الميلاد مع الفيثاغوريين المحدثين، الذين اختلط تاريخهم بالأفلاطونيين المحدثين[4].

قدّم الفيثاغوريون تفسيرات عديدة للموجودات الحسية والعقلية على السواء، حتى اتصفت الفيثاغورية المتأخرة بنوع من الرمزية العددية، فقد رمزوا للوقت المناسب بالعدد 7 الذي يقابل أيام الأسبوع الـ 7، وللعدالة بالعدد 4، والزواج بالعدد 3، ورمزوا للعقل بالعدد 1، لأنه ثابت، ورمزوا للظن بالعدد 2 لأنه تردد طرفين، أما العدد 10 فقد كان له منذ البداية وضعاً مقدساً، حيث اعتبروا مثلث الـ 10 أعظم الأشكال الهندسية، وكانوا يقسمون به لأنه يضم الأعداد كلّها، وبالتالي فإن طبيعة الكون مكونة من مجموع الأعداد الـ 4 الأولية.

وعدا مثلث الـ 10 كانت لهم نظريات في الهندسة، وقد استخدم الفيثاغوريون الرياضيات في تفسيرهم للموسيقا، واستخرجوا النسب الحسابية بين الأصوات المختلفة في السلّم الموسيقي أو في الأوكتاف، وحددوها بالنسبة 6: 8: 9: 12، وانتبهوا إلى أن ائتلاف الموسيقا أو الهارموني مصدره وجود وسط رياضي بين نوعين من النغم. أما فن النحت عند "فيدياس" و"بوليكليتوس" و"ميدون"، فإنه لا يخرج أيضاً عن تصويره الإنسان على هذه النسب والقواعد التي يفرضها المعيار الرياضي للجمال عند "فيثاغورس"، وقد امتدت كذلك فكرة الفيثاغوريين في الائتلاف إلى الطب وإلى نظريتهم في النفس[5].

ومن نظرياتهم في الفلك نظرية كروية الأرض، وهي أن الأرض وباقي الكواكب تدور حول نار مركزية أطلقوا عليها أسماء رمزية مثل أم الآلهة أو بيت "زيوس"، وبين هذه النار المركزية تدور الأجرام السماوية الـ 10، وأعلاها سماء الثوابت تدور من الشرق إلى الغرب، ومن تحتها "الكوزموس" تدور في السيارات الـ 5 والشمس والقمر، ثم "الأورانوس" وهو من السماء تحت القمر وهي تحيط بالأرض يليها جرم لا نراه وقد سموه "الأنتيختون"[6].

كان "فيثاغورس" شيخ الإيطالية، وقد روى "أرستيب الغريناني" أن هذا الفيلسوف سمي "فيثاغورس" لأنه كان في قوة كهانته يخبر الأشياء فتقع كما أخبر[7].

ويذكر أن فيثاغورس هو الذي وضع لفظ "فلسفة"، إذ قال: "لست حكيماً" فإن الحكمة لا تضاف لغير الآلهة، وما أنا إلا "فيلسوف".

إذاً الفيثاغورية نهضة عظيمة متعددة الوجهات، وهي مذهب فلسفي يعد أول محاولة للارتفاع عن المادة التي وقف عندها فلاسفة أيونية، وفهم العالم بقوانين واضحة وأعداد معينة، وهي مدرسة علمية عنيت بالرياضة والموسيقى والفلك والطب، وعرفت بضع قضايا حسابية وهندسية، ووضعت في الهندسة ألفاظاً اصطلاحية، وهي هيئة سياسية ترمي إلى إقرارالنظام في هذه الحياة الدنيا[8].

-----

المراجع:

[1] تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 34- 35.

[2] فيثاغورس، مصطفى غالب، دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر، ص 18.

[3] المرجع السابق ص 30.

[4] فيثاغورس فيلسوف علم الرياضيات، دار الكتب العلمية، ص 24- 25.

[5] المرجع السابق ص 32- 33- 34.

[6] المرجع السابق ص 35- 36.

[7] المرجع السابق ص 37.

[8] تاريخ الفلسفة اليونانية، مرجع سابق، ص 36- 41.