في روايته "السقوط" ، يتناول كامو معنى الحياة والموت والعدالة والنزاهة والأخلاق. إنها تأمل فلسفي، عبر حوار يدور في أحد مقاهي أمستردام. الراوي جان بابتيست كلامانس هو محامٍ تائب، يستعرض موقفه من الحياة، ومن الأحداث التي مرت معه، أو كان شاهداً عليها.

من أكثر الشخصيات جدلاً في القرن العشرين. ولد في بيئة فقيرة في الجزائر، من أب فرنسي وأم إسبانية مصابة بالصمم. ولد ألبير كامو سنة 1913. عمل صحفياً ومحرراً رئيساً لهيئة التحرير، وكاتباً مسرحياً، وكاتب مقالات سياسية، إضافة إلى كونه ناشطاً. واشتهر فيلسوفاً وروائياً له بصمته الخاصة. نال عام 1957 جائزة نوبل للأدب. وتوفي في حادث سيارة، عام 1960، وكان عمره آنذاك سبعة وأربعين عاماً.

تجاهل الفلسفة المنهجية، وانطلق نحو فلسفته الخاصة. رفض أن يطلق عليه لقب فيلسوف، ورفض أيضاً نعت فلسفته بالوجودية. اعتمد على فلسفته الخاصة في إشادة أفكاره التي تتعلق بمعنى الحياة والموت. في كتابه "أسطورة سيزيف" يقول: "هناك مسألة فلسفية حقيقية واحدة، ألا وهي الانتحار". وهو هنا لا يعني إيقاف الحياة عبر الانتحار، وإنما كيف يمكن أن نرى في العبث شيئاً يجعلنا نستمر في العيش، ونواجه مصيرنا كبشر. ها هو سيزيف يدحرج صخرته إلى قمة الجبل، ثم تسقط إلى أسفل، ويعاود دفعها إلى القمة.

طرح كامو أفكاره الفلسفية في رواياته، فهو يقول: "إذا أردت أن تكون فيلسوفاً، فاكتب الرواية". ويقوم صديقه سارتر بتضمين روايته أفكاراً فلسفية، ولكنه لم يمتلك قوة كامو وخياله وقدرته الروائية، فجاءت فلسفته المنهجية أكثر تعبيراً عن أفكاره. ويعترف سارتر بأن قيمة الأدب أعلى من قيمة الفلسفة، وبأن الخلود سيكون للأدب أكثر مما للفلسفة.

في روايته "السقوط" الصادرة عن دار نينوى، يتناول كامو معنى الحياة والموت والعدالة والنزاهة والأخلاق. إنها تأمل فلسفي، عبر حوار يدور في أحد مقاهي أمستردام. الراوي جان بابتيست كلامانس هو محامٍ تائب، يستعرض موقفه من الحياة، ومن الأحداث التي مرت معه، أو كان شاهداً عليها. فمثلاً يتحدث عن امرأة عجوز يطلب منها الضابط الألماني اختيار أحد أبنائها ليطلق عليه النار.

إن هذا الوجود الخطير، ينبئ عن قيمة الإنسان في هذا العالم. وهذا يدفع كلامانس إلى تأنيب نفسه، والتعامل بطريقة إنسانية أثناء العودة إلى قريته. ولكن هل يكفي الندم؟ وهل إن عدم الرشوة وأخذ الأموال من الفقراء، هو أقصى واجب لدى المحامي؟

تبدو فلسفة كامو واضحة تماماً، إذ إنه يضعنا أمام الموت وقدرته على تغيير آرائنا في الحياة، وعلى دفعنا إلى الحب واحترام الآخر. وفي مكان آخر يدرك كامو أن الإنسان يستمرئ أن يستعبد أخاه، كحاجته إلى الهواء. إن أفعال الإنسان لا تنبع من الرحمة والتعاطف، بقدر ما تنبع من إشباع الرغبة في الشيء. إذاً، تكون الحقيقة هنا مجرد خداع.

يحكي محامي الدفاع كلامانس أنه كان يعيش حياة مثالية وناجحة في باريس. قام بالدفاع عن الأرامل والأيتام والمحرومين والفقراء، وقدم خدمات قانونية مجانية لأي أحد طلب منه ذلك. قدم الصدقات للمحتاجين وساعد المكفوفين على عبور الشوارع، وفعل كل ما يمكن أن يفعله رجل طيب.

في اعترافاته، يتحدث المحامي التائب عن تلك اللحظة التي كان فيها عائداً من بيت عشيقته إلى بيته، وعندما كان يعبر جسر بونت رويال، شاهد فتاة تتكئ على حافة الجسر. يتابع سيره رغم أن استغرب هذا المنظر. وبعد أن قطع مسافة قصيرة سمع صوت ارتطام بالماء، عندها يدرك تماماً أن الفتاة قد انتحرت. يرتجف جسده كله، ورغب بأن يركض ولكنه لم يتحرك خطوة واحدة. كان ضعيفاً ومتشظياً ولا يقدر على الحراك. وهذا المشهد المؤثر جعل المحامي التائب كلامانس يتمنى أن يعود بالزمن إلى الوراء لينقذ هذه المسكينة. إنها صوت الضمير بالتأكيد. هذا الضمير الذي لا بد أن يكون حاضراً وقوياً ليضمن الكائن البشري استمراره ووجوده، رغم عبثيته.

بعد عدة سنوات، تداهمه ذكرى الفتاة المنتحرة وهو يعبر الجسر، وها هو يسمع صوتها، ويشعر بالأسى وعدم الرضا من عدم فعله شيء. وفي مراجعة لحياته، يكتشف كلامانس أنه قضى حياته في البحث عن الشرف والتسلط على الآخرين. كم كانت حياته مجرد نفاق وأنانية ونزوع نحو الكسب. أراد أن يكون غير ما يعرفه الناس به، أي أن يعتدي على الآخرين ويمعن في ظلم المظلومين. لقد أرقته كلمة العدالة، وتمنى أن يدمر كل ما يتعلق بها. يترك مهنته ويستغرق في الملذات، باعتبار أن الإنسان لا يمكن أن يكون منافقاً وهو غارق في اللذة.

هذه الرواية تشريح لأخلاق منتصف القرن العشرين، وما جرته الحروب على الإنسان في أوروبا والعالم. إن سؤال العدالة والضمير لا يغادران الراوي، ولكنهما يبقيان بلا إجابة شافية، حيث لا يرى الراوي أي شيء مجدياً. الحياة عبثية، ونحن مجرد كائنات لا ندرك ماذا علينا أن نفعل.

-----

الكتاب: السقوط

الكاتب: ألبير كامو

المترجمة: يارا شعاع

الناشر: دار نينوى، دمشق، 2019