تشمل المكتبة الظاهرية التي تنسب إلى الظاهر بيبرس، على بنائين الأول هو المدرسة العادلية الكبرى التي وضع أساسها نور الدين الزنكي سنة 568 هجري الملقب بالشهيد، وظلت على مدى سبعة قرون ونصف القرن تدرس اللغة العربية، وكانت مقراً للعلماء.

من قلب دمشق القديمة وبجوار العديد من الأوابد الأثرية والمباني القديمة، تطل عليك المكتبة الظاهرية بفنها المعماري وكنوزها المعرفية كأهم نقطة معرفية أعطت لأقدم مدينة مسكونة في التاريخ هويتها مثل الجامع الأموي الكبير الذي تجاوره وقلعة دمشق وحمام السلطان الظاهر.

ففي شارع ضيق معبد بالحجر البازلتي الأسود الذي طالما مشت عليه عربات السلاطين والملوك والأمراء والقادة، ينتصب مبنى حجري مرسوم بدقة متناهية هو المكتبة الظاهرية التي تقع على طريق المواكب داخل دمشق القديمة.

المكتبة من الأعلى

تحفة علمية

باحة المكتبة

يبين لنا الأستاذ محمد درويش مدير المكتبة الظاهرية بدمشق وهو يتحدث بشغف عن الهوية التاريخية والعلمية للمكتبة الظاهرية، بأنها كانت تدعى دار الأمير حسين العقيق في عام 300 هجري، ويقال إن صلاح الدين الأيوبي ولد فيها، إذ إن عمه أسد الدين شيركوه جاء واستوطن هذه الدار في ذلك الوقت (وهي مقولة لا يوجد فيها جزم حتى الآن وتحتاج إلى الكثير من البحث).

تشمل المكتبة الظاهرية التي تنسب إلى الظاهر بيبرس، على بنائين الأول هو المدرسة العادلية الكبرى التي وضع أساسها نور الدين الزنكي سنة 568 هجري الملقب بالشهيد، وظلت على مدى سبعة قرون ونصف القرن تدرس اللغة العربية، وكانت مقراً للعلماء.

ويحدثنا مدير المكتبة الحالي قائلاً: إن الظاهر بيبرس أراد أن ينشأ مدرسة باسمه في دمشق بعد أن أنشأ المدرسة الظاهرية في مصر، ولكنه توفي قبل أن يحقق حلمه، ليأتي ابنه الملك السعيد الذي قرر تحقيق حلم والده. ومن أجل ذلك عاد الملك السعيد إلى سورية بعد أن أرسلت والدته طلباً لعودته، فعمل على وضع جثمان ولده الملك الظاهر في قاعة العرش في قلعة دمشق، وبدأ البناء إلى أن وصل إلى القبة. وفي هذه الفترة نقل جثمان والده الظاهر بيبرس من قلعة دمشق إلى المدرسة الظاهرية، ولكن بعد فترة قصيرة توفي الملك السعيد حيث كانت فترة حكمه قصيرة جداً لم تتجاوز السنة وعدة أشهر فقط، ودفن بجانب والده، ليأتي الناصر قلمون ويكمل بناء القبة التي فوق ضريح الملك الظاهر، ويكمل بناء المكتبة الظاهرية.

جمع المكتبات

بقيت الظاهرية مدرسة لتعليم الدين والفقه حتى أواخر العهد العثماني، حيث كان القرار العلمي المهم بتحويلها إلى مكتبة عامة مع نهاية القرن التاسع عشر في عهد ولاية مدحت باشا بفضل نشاط الشيخ طاهر الجزائري وسليم البخاري ومجموعة من العلماء الذين اجتمعوا على إحداث نهضة فكرية للحد من التخلف الذي أخذ يستشري في المنطقة. وخرجوا بفكرة جمع المكتبات الموجودة في دمشق، رغبة منهم في حفظ جميع المخطوطات في مكان واحد وحصرها، خوفاً عليها من الضياع وبهدف زيادة الاستفادة منها، خاصة بعد أن أصبح الناس العاديون يتداولون المخطوطات كورق دون تقدير لقيمتها العلمية والمعرفية، وبعد أن سُرق ما يعادل ربع محتويات المدرسة العمرية الموجودة في الشيخ محي الدين. وعليه قرر الشيخ طاهر الجزائري القيام بجمع المخطوطات في مكان واحد؛ حيث جمع 13 مكتبة كانت موجودة بدمشق ووضعها في المكتبة الظاهرية. ولأجل ذلك سميت أم المكتبات أو المكتبة العمومية، منها المدرسة العمرية ومدرسة الخياطين ومكتبة عبد الله باشا العظم. بعدها أخذ بالاتصال مع وجهاء دمشق والعلماء للحصول على الكتب من خلال التبرع والشراء ضمن الإمكانيات.

استحداث المكتبة

يتابع الأستاذ درويش حديثه حول استحداث المكتبة الظاهرية مبيناً أن طاهر الجزائري اختار قبة الملك الظاهر في المكتبة الظاهرية لتكون مكاناً آمناً للمخطوطات بعد أن بنى مكتبة خشبية فوق الضريح، إضافة إلى عدد من المكاتب في الشبابيك ووضع فيها جميع المخطوطات. وبذلك يكون قد جعل القسم القبلي من البناء مخصصاً للمكتبة الظاهرية، والطرف الشمالي مدرسة ابتدائية، حيث استمر الحال هكذا إلى أن جاء الأستاذ محمد كرد علي، وهو تلميذ الشيخ طاهر الجزائري، وسعى إلى نقل المدرسة الابتدائية إلى مكان آخر ليبقى المبنى كله مخصصاً للمكتبة، وعمل على تأسيس مجمع اللغة العربية الذي بنى محتوياتها من خلال الإهداء والشراء بشكل تدريجي لتصبح المكتبة العمومية أو الوطنية.

الرحلة الآمنة

حافظت المكتبة على وجودها ومحتوياتها أمام جميع الغزاة والطامعين، فكل من استلم هذه المكتبة كان من العلماء والمخلصين الذين حافظوا عليها، وخاصة أنها ومنذ إحداثها كان لها أرشيف وطني وحكومي خاص بها، ومن خلاله تمت حماية المخطوطات من السرقة أو الضياع. منذ عام 1980 رحلت جميع المخطوطات من المكتبة الظاهرية إلى مكتبة الأسد التي تعتبر مجهزة بشكل حديث، ووضعت فيها وسائل الأمان للحفاظ على المخطوطات والكتب بشكل أفضل. بحسب مدير المكتبة، فقد تم نقل أهم الموجودات في المكتبة من مطبوعات إلى مكتبة الأسد، وما بقي في الظاهرية هو عبارة عن كتب عادية يصل عددها إلى حوالي 60 ألف كتاب كمادة لغة عربية، إضافة إلى احتضان المكتبة لكتب ومراجع ومؤلفات لثلاث عشرة لغة منها الإنكليزية والفرنسية والألمانية.

بناء مملوكي

تعتبر المكتبة الظاهرية بناء مملوكياً بامتياز وتحفة معمارية مازالت تحتفظ بالكثير من النقوش والكتابات على جدرانها وأبوابها. يسترسل الأستاذ أنور في وصفه للمكتبة مبيناً أنه يتم الدخول إليها من باب واسع مبني بأحجار بيضاء وصفراء يطل على ساحة، تجعلك تقف للحظات مذهولاً من روعة هذا الفن المعماري، حيث تتوسطها بحرة تمنح المكان طمأنينة وهدوءاً كبيرين، وعلى اليمين يوجد ضريح الملك الظاهر مع إيوان ضخم وبوابة واسعة، بينما يوجد على اليسار المدرسة العادلية الكبرى، وفيها الكثير من الغرف التي كانت مخصصة للمدرسة، وفي الجانب المقابل للباب الذي يسمى الجانب الشرقي يوجد إيوان ثانٍ مشابه للإيوان الذي بجانب الضريح، وفي الأعلى يتربع مقر مجمع اللغة العربية.

الأهمية الكبرى

بقيت المكتبة الظاهرية ولتاريخ طويلة نقطة اعتماد كبيرة لأهالي دمشق وخاصة شريحة الطلاب الجامعيين والباحثين. وكان هناك رابط روحي وتاريخي بين المكتبة والباحثين الذين كانوا يفضلون الجلوس فيها لساعات طويلة. وكان لها دور كبير عندما تعرضت سورية في العهد العثماني وفي فترة الانتداب الفرنسي للحروب ومحاولات طمس الهوية واللغة العربية، فكانت المكتبة الظاهرية مركز إشعاع فكري وركناً أساسياً من أركان النهضة لأن أغلب علماء هذه الفترة كانوا يجتمعون فيها من طاهر الجزائري ومحمد كرد علي إلى أعضاء المجمع في ذلك الوقت، حيث لعبت دوراً أساسياً في تعريب المناهج ودواوين الدولة وحماية اللغة العربية من التتريك والفرنسة. واليوم وفي ظل الأتمتة والمعلوماتية وللحفاظ على محتويات هذا الصرح المعرفي والتاريخي، كان هناك مشروع لفهرسة المكتبة الظاهرية بشكل مؤتمت، والذي تم الانتهاء منه مؤخراً. وحالياً توجد خطة عمل للبدء بأتمتة المكتبة ضوئياً، بحيث يكون لكل الكتب نسخ ضوئية حفاظاً عليها من التلف، ولكي يتم تداولها بسهولة.