روى أتباع سقراط وتلامذته أنه لم يكتب شيئاً على الإطلاق، لكنه انصرف إلى البحث في موضوعين رئيسيين هما النفس الإنسانية والتصورات الأخلاقية. وقد كان من الطبيعي أن يلجأ إلى استعمال المناهج العقلية والتأملات المناسبة لهذه الدراسة، أما المناهج التجريبية التي تعتمد على المشاهدة واستخدام الحواس، فلم تكن تفيده في الوصول إلى المعرفة التي يسعى إليها.

تواجه الباحث في فلسفة سقراط مشكلات كثيرة أساسها أنه لم يدوّن شيئاً، وكل ما علمناه عنه فهو ما ذكره عنه تلاميذه ومعاصروه، وأهم المصادر الخاصة بحياته وفلسفته يمكن أن تُستمد من ثلاث شخصيات هم كسينوفون وأفلاطون وأرسطو، وقد ذهب بعض من المؤرخين إلى استبعاد رواية كسينوفون عنه بدعوى أنه لم يكن فيلسوفاً، في حين ذهب آخرون إلى ضرورة الرجوع إلى روايته، فعدم وجود فلسفة خاصة به يجعله ناقلاً محايداً لآراء سقراط، خاصةً أن شخصية سقراط شهدت تضخّماً في المحاورات الأفلاطونية، غير أن رواية أرسطو حسمت الأمر إلى حدّ كبير.

كما يمكن الاستدلال عن فلسفته ممن عُرفوا بصغار السقراطيين، وعند الشعراء والأدباء المعاصرين له مثل أريستوفان، لكننا يمكن أن نلاحظ أن كثيراً من الفلاسفة قد انتسبوا إلى سقراط، إذ وجدوا فيه تدعيماً لآرائهم الفلسفية، ومنهم الكلبيون والقورينائيون والميجاريون، لكن سقراط نفسه اختلف عن هؤلاء السقراطيين في كثير من الوجوه، خاصةً فيما يتعلّق بالكلبيين من حيث أنه لم يتطرف في زهد إلى الحد الذي وصلوا إليه، وهناك فارقٌ كبيرٌ بين فلسفته وفلسفتهم يتمثل بتمسكه بسياسة المدينة واحترام قوانينها. في حين ألغى الكلبيون نظام المدينة وقالوا بالأخوة العالمية التي أساسها المساواة الطبيعية. والحقيقة أن ارتباط سقراط بسياسة المدينة والخضوع لنظمها وقوانينها، جعله معارضاً لكل محاولة للتحرر من هذه القوانين أو تغييرها.

أيضاً اختلف سقراط مع سياسة الديمقراطية التي أفسحت المجال لحرية الأفراد في الحديث عن كل شيء، حتى أصبح في إمكان المواطن الأثيني أن يُناقش أدق موضوعات السياسة والأخلاق والعقائد. وهذه الديمقراطية قضت على سقراط لأنه طالب بالقضاء عليها، فصراعه معها كان صراعاً لا ينتهي إلّا بالموت.

وقد شكك أيضاً في قدرة العقل على معرفة العالم الخارجي وفي إمكانية التعليم، وسخر من السفسطائيين الذين اتخذوا من التعليم مهنةً لهم، وهو نفسه لم يكتب شيئاً، ومنهجه الجدلي لم ينته إلى كسب أي معرفة إيجابية عن العالم والحياة والإنسانية، إلّا إذا فهم على أنه دعوة إلى التأمل الباطني ومحاسبة النفس لنفسها.

كما أن المضمون الاجتماعي والسياسي الذي يمكن الاستدلال عليه من ثنايا نظريات سقراط الفلسفية، يكشف عن اختلاف كبير بينه وبين معاصريه والسابقين عليه في الرؤية العامة للكون والحياة والإنسانية. على أن أهمية سقراط في تاريخ الفلسفة لا تستمد من تعاليمه بقدر ما تستمد من تأثيره على الفلاسفة الذين ساروا في التيار الذي أنشأه تيار الفلسفة الروحية المثالية، وهو الذي قدم الأسس الأولى للمذهب المثالي الذي سار عليه أتباعه خاصةً أفلاطون، حيث استطاع أن يُخرج منها النتائج المترتبة عليها، ويعممها على مختلف مجالات الفكر الفلسفي التي لم يطرقها سقراط.

أما شيشرو فقد قال عبارته الشهيرة عن فلسفة سقراط بأنه "قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، وأدخلها المنازل، وجعلها تسوس أفعال البشر". وهي الحقيقة فعلاً، فقد نجح في توجيه الفلسفة من البحث في الطبيعة إلى البحث في النفس الإنسانية، واتخذ من عبارة معبد دلفي "اعرف نفسك" شعاراً لكل فلسفته.

لقد روى أتباع سقراط وتلامذته أنه لم يكتب شيئاً على الإطلاق، لكنه انصرف إلى البحث في موضوعين رئيسيين هما النفس الإنسانية والتصورات الأخلاقية. وقد كان من الطبيعي أن يلجأ إلى استعمال المناهج العقلية والتأملات المناسبة لهذه الدراسة، أما المناهج التجريبية التي تعتمد على المشاهدة واستخدام الحواس، فلم تكن تفيده في الوصول إلى المعرفة التي يسعى إليها. كما أن الاستقراء السقراطي الذي نسبه إليه أرسطو، لم يكن يعني لسقراط التعميم المستمد من ملاحظة الأمثلة الجزئية واستقراء الوقائع التاريخية، إنما كان تصنيفاً للأمثلة الموضحة للتصور الكلي أو المثال المدرك بالعقل والمشترك بين هذه الأمثلة.

لقد كان أرسطو يقصد في سياق حديثه أن يذكر مجهود سقراط في تشييد الفلسفة المثالية التي وصلت عن طريق أستاذه أفلاطون. وتُعد رواية أرسطو ذات أهمية خاصة وهو يقول: "لقد انصرف سقراط عن البحث في الطبيعة الكلية، وعكف على دراسة الموضوعات الأخلاقية، وفي هذا المجال كان يعنى بالكلي، وكان أول من أقام العلم على التعريفات". وقال أيضاً: "كان سقراط يعنى بالبحث عن الماهية والاستدلال القياسي، وهناك شيئان يمكن أن ننسبهما إلى سقراط، الاستدلال الاستقرائي والتعريف الكلي، وكلاهما يتعلق بنقطة البداية في كل العلوم".

وقد ذكر كسينوفون طريقة سقراط في استخدام الاستقراء، ووضح كيف كان يجمع الأمثلة ليبيّن ما ينطوي على الموضوع وما لا ينطوي عليه. ففي حوار دار بينه وبين الشاب أوتيديموس، يذكر سقراط أن المواطن لا يكون صالحاً ما لم تتم له صفة العدالة. وعندما ادعى أوتيديموس أن لا أحداً يفوقه في هذه الصفة، يوجه سقراط الحوار إلى وضع تعريف للعدالة، ورغم أنه لا ينتهي في آخر الأمر إلى تعريف محدد، إلا أنه يأخذ في ذكر الأمثلة الموضحة للعدالة والأمثلة التي تُوضح نقيضها. أما عن التعريف الذي يحاول سقراط أن يعدد به الماهية الكلية، فهذا أمر لم ينجح به، بدليل أنه في أغلب المحاورات السقراطية التي كتبها أفلاطون مثل لاخيس وأوطيفرون وخارميدس، لا نجد الحوار ينتهي إلى تعريف محدد للفضيلة. وهذا يجعلنا نتساءل هل كان سقراط حقاً يُعنى بالتعريف النظري كما يقول أرسطو؟ أم كانت مجرد محاولة منه ليجعل محاوره يتبيّن قصور معرفته، ولكي ينتهي إلى أن الجميع لا يعرفون حقيقة ما يدّعون؟ والغاية النهائية التي يمكن أن نستدل عليها من المعرفة التي يطلبها سقراط، هي غاية عملية لا نظرية، لأن هذه المعرفة سوف تتحدد في النهاية بالفضيلة على حد قوله "إن الفضيلة علم والرذيلة جهل". ولعلّ أصدق تفسير لهذا المنهج السقراطي، هو أنه ليس منهجاً لتعليم الفلسفة بقدر ما هو منهج للتفلسف، فهو لم يناقش الناس ليعلمهم شيئاً، لكن ليبين لهم طريقة المعرفة.

ولقد لجأ سقراط إلى استعمال ما يعرف بطريقة التهكم التي تعتمد على توجيه الأسئلة مع اصطناع الجهل بالموضوع الذي يسأل عنه، حتى ينتهي بمحاوره في النهاية إلى إدراك جهله، كذلك يشير إلى أن المعرفة فطرية وأن مهمة المعلم تتلخص في مساعدة الآخر على استخراج الكامن عنده، وليس في إضافة شيء جديد له، وهذا ما دعاه أفلاطون بالتوليد السقراطي.

والمنهج القائم على التهكم والتوليد يمكن أن يُطلق عليه اسم الجدل، لأنه استخراج الأفكار من النفوس، ومحاولة توضيحها بالمناقشة الذاتية أو الحوار الثنائي، وهو ما يعرف بالديالكتيك أو الجدل. فالحقيقة عند كل من سقراط وأفلاطون هي قبل كل شيء فكرة، والفكرة لا يمكن أن تتضح إلّا بالجدل، أي التحليل النقدي لكل جوانبها.

وإذا ما رجعنا إلى الفلسفة الطبيعية السابقة لسقراط، فسوف نجد أنها كانت تدور حول افتراض مبدأ لحركة الكون ونشأته، وهذه الفلسفة بالذات من أهم مقدمات الفكر المثالي عند سقراط وأفلاطون. أما فيما يتعلق بالفلسفة الأخلاقية التي حمل لواءها السفسطائيون أصحاب الاتجاهات الحديثة في الفكر الفلسفي، فقد أثار هذه الاتجاهات نقد سقراط خاصةً بعد أن شككوا في وجود الآلهة.

ولقد تركت فلسفته تأثيراً هاماً في علم الطبيعة، ويظهر هذا التأثير في النزعة الغائية التي امتدت إلى أفلاطون وأرسطو، فقد آمن سقراط بأن هذا الكون يخضع في وجوده وسيره لغاية عقل إلهي، وكل ما فيه مرتب ترتيباً يحقق الخير والكمال، وكما أن للكون عقلاً مدبراً، كذلك فإن للإنسان نفساً عاقلة لها السيطرة على الجسم وهي الوجهة إلى الخير والفضيلة.

وفيما يتعلق بالنفس، فقد أكد سيادتها على البدن، واعتبارها الجوهر العاقل الذي يتميز به الإنسان، ومن هنا توّج سقراط الفضائل كلها بفضيلة الاعتدال، والتي تعني عنده التحكم في الرغبات والانفعالات، وبمعنى آخر سيطرة العقل على كل أفعال الإنسان وسلوكه، فالعقل هو صاحب المقام الأول في فلسفته، ومعرفة النفس بالنسبة إليه هي معرفة بالخير وتحقيق للفضيلة، فالفضيلة علم والرذيلة جهل، وجهل الإنسان بالخير هو وحده مصدر التورط بالشر. لكن من المفارقات الغريبة أن نجد سقراط نفسه وعلى الرغم من قوله أن الفضيلة تحتاج علم، إلّا أنه لا يتصور أن هذا العلم يمكن تعليمه للناس، بل يذهب إلى أنه مفطور بالنفس، وينتهي إلى القول بأن الفضيلة واحدة لكن تتعدد أسماؤها وصورها، إنها تتلخص عنده في شيء واحد هو دائماً إدراك الخير ومعرفة أين يكون.

ولم يكن هناك فكرة فلسفية كان لها التأثير في حياته بقدر ما كان لفكرة القانون ومفهومه عنده، ويشهد كسينوفون لسقراط بشدة تمسكه بقوانين المدينة واحترامه لها، وتأكيده لأصلها الإلهي، فالقانون بالنسبة إليه كالحقيقة الرياضية لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وكان يرى أن هناك قوانين غير مكتوبة مستمدة من الآلهة، وهي غير خاصة بمدينة أو بزمان، بل هي عامة معروفة للجميع، وما تنص عليه هو العدالة الإلهية التي تكون طاعتها مقدسة ويكون أي مساس بها إساءة للآلهة، يترتب على من يمسها ضرر بالغ لأنها تحمل في طياتها عقاب من يخالفها، ومن قبيل هذه القوانين برّ الوالدين واحترام الآلهة وتقديسها وعدم الزواج من المحارم. إذاً احتلّ القانون لديه المكانة العليا، فهو عنده أساس التربية ومصدر الفضيلة وسرّ الثبات والنظام وهو رمز العدالة الإلهية.

وفيما يتعلق بخلود النفس، فقد كان صريحاً، ولو أن مسلكه في آخر أيام حياته ورضاه بالحكم الذي قضت عليه به الديمقراطية الأثينية، كان دليلاً على أنه يؤمن بوجود حياة أخرى، ويأمل أن يعوض في هذه الحياة عما لقيَه من جحود في حياته الدنيا، ومع ذلك فإننا لا نجد له في مسألة الخلود سوى ما يُنسب إلى تلميذه أفلاطون في كتابه فيدون حين قال سقراط: "نعم، أعترف أنه لولا اعتقادي أني سوف أذهب أولاً صوب آلهةٍ أخرى حليمة ورحيمة، ثم بعد ذلك نحو رجال ماتوا هم خير من رجال هذه الدنيا، لكان من الخطأ الفاحش ألّا تثور نفسي ضد الموت، وحينئذٍ فلا وجود لنفس الأسباب التي تدعوني إلى الثورة في هذه الظروف، ولكني على العكس من ذلك، كبير الأمل في أن هناك شيئاً وراء الموت".

-----

الكتاب: سقراط، رائد فلاسفة اليونان

الكاتب: الدكتور فاروق عبد المعطي

الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، 1993