إن حياة هيراقليطس وأسلوب معيشته يرتبطان على نحو بالغ الدقة والندرة بفكره الفلسفي ومذهبه، حتى إنه يمكن القول إن الكثير من (شذراته) الفلسفية، ليست بحقيقتها سوى معلومات ونتاج للتفاصيل الواقعية التي عاشها، بل إن أسلوبه الغامض المعقد الذي لطالما شكا الشراح والمفسرون منه، لا يعدو كونه نتاجاً طبيعياً وردة فعل لتفاصيل عاشها واقعاً.

ولد هيراقليطس في أفسوس حوالي سنة 535 ق.م، وشاء له الحظ أن يدرج صاعداً في وظائف مدينته حتى حلّ في أسمى مناصبها. ولعلّ أبرز ما في خلقه شعوره بالعظمة والكبرياء، وقد بالغ في ذلك، ولم تكن عنده عامة الشعب خليقة بنظرة عطف، ولا هي جديرة أن ينزل إلى حضيضها من عليائه.

وكان هيراقليطس يلقب بـ "الغامض" تارةً وبـ "المظلم" تارةً أخرى، وقد قال عنه سقراط: "إن ما فهمه من كلامه قيّم عظيم، وما لم يفهمه يجب أن يُقاس على ما فُهم". ويميل بعض مؤرخي الفلسفة إلى القول بأنه تعمد ذلك الغموض تعمداً، لتنغلق فلسفته على عامة الناس الذين لم يقصد إليهم فيما كتب، إنما سطر ما سطر ليخاطب العقول المستنيرة الممتازة وحدها، وحتى هؤلاء لم يكن يعنيه في كثير أو قليل كيف تقع رسالته من فهمهم، إنما الخير لهم إن ساغتها نفوسهم، والخسارة عليهم إن استعصى عليهم إدراكها.

وعارض هيراقليطس المدرسة الأيلية وفلسفة بارمنيدس، فبرأيه أن الكينونة ليست ثابتة ولا خالدة، وليس الكون دائماً على صورة واحدة، فهو متغير متحول صائر أبداً إلى غير ما هو عليه، وكل لحظة تباين اللحظة التي سبقتها كما تخالف التي تليها، وهذه الاستحالة أو الصيرورة من صورة إلى صورة هي حقيقة الكون، فلا تفتأ الأشياء تتقلب من حال إلى حال إلى آخر الأبد، وكذلك أنكر أيضاً الدوام النسبي للأشياء[1].

إن حياة هيراقليطس وأسلوب معيشته يرتبطان على نحو بالغ الدقة والندرة بفكره الفلسفي ومذهبه، حتى إنه يمكن القول إن الكثير من (شذراته) الفلسفية، ليست بحقيقتها سوى معلومات ونتاج للتفاصيل الواقعية التي عاشها، بل إن أسلوبه الغامض المعقد الذي لطالما شكا الشراح والمفسرون منه، لا يعدو كونه نتاجاً طبيعياً وردة فعل لتفاصيل عاشها واقعاً، وضرورة التجأ إليها للتعبير عن أفكاره بهذه الطريقة العميقة،ولقدكانأسلوبهمضربالأمثالفيالغموض،وهوالأمرالذيجرّعليهفيمابعدلقب "المظلم"[2].

وهو الأول من الفلاسفة الذين بقيت من كتاباتهم مجموعة من (الشذرات) كافيةً لإعطائنا انطباعاً محدداً لشخصية وراء فلسفته، فحينما نمر من خلالها نطلع على أحكام عقل مستقل وقوي وأصيل، وكذلك خلق الرجل نفسه واتجاهه في الحياة والناس والسلوك، من يحبه ومن يكرهه، ومخاوفه وعاطفته نحو الحق، كلها تكشف عن نفسها في ألفاظه، فهو يبدو كأنه رجل متوحد وربما ليس فرداً محبوباً[3].

إن العصر الذي عاش فيه هيراقليطس وما ساده من حروب، كان يقضي اتباع ذلك الأسلوب، كما أن النهضة الدينية الجديدة، جعلت نغمة سائر أقطاب الفكر توقع على قيثارة الدين والتنبؤ، ولأنه كان فيلسوفاً وليس نبياً، فقد ضمن مذهبه فكراً تأملياً عميقاً، الأمر الذي جعل أسلوبه صعباً، ومن هنا عجز قراؤه عن فهمه، وربما قصد ذلك حتى لا يتداول الكتاب إلا أهل الرأي، وبعبارة أكثر دقة، إنه لم يتعب نفسه لشرح أفكاره، وبالمثل لم يتعب نفسه لإخفائها، إنه لا يكتب للأغبياء، وتبدو وجهة نظره "إذا فهمه قراؤه، فسيكون هذا شيئاً رائعاً، وإذا لم يفهموه فهذا أمر سيئ لهم". فلم يضيع وقته في تطوير وشرح فكره، بل عبر عنه في أقوال مأثورة قصيرة مكثفة، مركزة وحبلى بالمعاني[4].

ففي مدينة يرزح أناسها تحت قوانين جائرة، عاش هيراقليطس الفيلسوف والملك ووريث سلالة الكهنة العظام لديانة المدينة، متنازلاً بكبريائه في فترة مبكرة من حياته عن مناصبه الرفيعة، طمعاً بالعيش على مقربة منهم سبيلاً لإصلاحهم، فقابلوا تضحيته الكبيرة بالإعراض، ثم حين أخلد إلى اليأس منهم، غادر المدينة وأهلها إلى الجبال ليكتب مذكراته الفلسفية وتأملاته الكبرى، وعلى وفق الطريقة التي يراها مناسبة له، والتي يستطيع على نحو بالغ الوضوح فهمها وربما حفظها عن غيب، كونها بالغة الإيجاز والدلالة على كل ما رآه.

وأسلوبه هذا هو موقف فكري من العالم يصدر بالضرورة عن أرضية نفسية، تشكلت من خلال حياته الشخصية في مدينته. أما الوصف اللغوي البنائي، فقد جاء على وفق طريقة تخالف أساليب التدوين الفلسفي لأبناء عصره من الفلاسفة، أولئك الذين كان هيراقليطس قد اطلع جيداً على أفكارهم جميعاً بدليل حضورهم بالاسم في شذراته موضعاً للنقد والتفنيد والإدانة.

إنه أسلوب شعري رمزي تخيلي نبوئي في بنائه اللغوي، على الرغم من كونه مترعاً حد الفيضان بحكمة الفلسفة، وبكل ما من شأنه أن يكون موضوعاً أصيلاً لعلاقة الإنسان بالعالمين الواقعي الفيزيقي بكل ثرائه وتنوعه، والميتافيزيقي بكل مبادئه وعلله الكبرى، فضلاً عن عنايته بالأخلاقي والسياسي والإبستمولوجي والديني والنقدي أيضاً.

وهذا الأسلوب يمكن وصفه موقفاً من الفلسفة ذاتها، لا من ناحية موضوعاتها ولا من حيث ضرورات شرحها وطرائقها البرهانية بغية إيصال مضمون هذه الأفكار إلى الآخر، إنما من ناحية الأداء اللغوي النفسي للمضمون الفكري، وهو أسلوب مبتكر، أثبت قدرة هيراقليطس على إيصال أعظم موضوعات الفلسفة وأدقها عبره، مصحوباً كل هذا الأداء اللغوي بقناعة الفيلسوف الكاملة بأن ما تتضمنه شذراته الشعرية القصار، هو مضامين فلسفية عالية الدقة والأصالة، قادرة بامتياز على حمل أسرار الوجود وكشوفات المعرفة كلها، حين استلزم هذا الإجراء لدى سواه من الفلاسفة مؤلفات أو مباحث لإنجازه، مثال ذلك (الجدل) عند هيغل وهو القانون العام الذي تمضي وفقه حركتا العقل والعالم المادي على حد سواء، وهي المسألة التي كلفت هيغل كل فلسفته تقريباً لإثباتها، وفي مقابلها اكتفى هيراقليطس بقول بضع عبارات قصيرة رأى أنها كافية للتعبير عن قانون الجدل، فيقول: "إن كل ما هو نقيض يتجمع، ومن المختلف يولد أجمل انسجام، كل شيء يتحول بالتنافر"[5].

خصوصية النص

لقد وصلت فلسفة هيراقليطس عبر عدد محدود من الجمل والمقاطع، جرى الاصطلاح على تسميتها (شذرات) لم يتجاوز عديدها على وفق أكبر إحصاء لها 130 شذرة، الأمر الذي لم يحدث مثيله في تاريخ الفلسفة كله.

ومضمون (الشذرات) لا يتعلق بموضوع واحد، إنما يشمل فلسفته كلها، كما أنها لم تكتب بطريقة فلسفية، إنما بطريقة شعرية رمزية تخيلية نبوئية مترعة بالفكر، يكتنفها الغموض أحياناً بسبب عمق تأملاتها، وهو الأمر الذي جعلها أكثر خصوبة وعرضة للتأويل، وأكثر انفتاحاً وقابليةً على فهم معانيها المتعددة.

يقول زيللر:"إن هيراقليطس يشتغل عقله بالحدث أكثر مما يشتغل بالمفاهيم، وهو يتوجه إلى تحليل ما هو مطروح"، وهو نفس المعنى الذي سبق لـ "أفلوطين" تأكيده حين قال عن هيراقليطس:"يبدو أنه يتكلم وهو يبتسم، غير عابئ بأن يجعل معناه جلياً، وربما لأنه يرى أنه يجب أن نبحث في أنفسنا كما بحث هو في نفسه بنجاح".وبعبارة موجزة إن نعت فلسفة هيراقليطس استناداً إلى الخصائص التي تحتويها بأنها (معجز فلسفي)، هو نعت قريب من حقيقتها[6].

في أعماق النفس

استحق هيراقليطس لقب "صانع الحجج"، وعندما سأل يوريبيديس سقراط عن رأيه في كتابات هيراقليطس، أجاب: "ما أروع الجزء الذي أفهمه، وما أروع الجزء الذي لم أفهمه أيضاً، لكن يحتاج إلى غوّاص ماهر كي ينفذ في أعماق معانيه". وهذه ليست محض مزحة بسيطة من سقراط، فثمة مثالان آخران على أقوال هيراقليطس المستعصية عن الفهم هي "الموت هو كل ما يتراءى لنا في يقظتنا، بينما ما نراه خلال نومنا هو النوم". وقال: "إن الحياة تشبه طفلاً يلعب، ويحرك دماه أثناء لعبه، والملَكية تنتمي إلى الطفل".

لقد اعتبر هيراقليطس عالم النفس الأول في البشرية، فربما كان المفكر الأول الذي بحث في النفس البشرية ليس من المنظور التقليدي للنفس، على أنها تلعب دوراً في عملية التفكير والإدراك لدى الإنسان، وقد كان على دراية فائقة بمدى غموض هذه النفس المفكرة فقال: "لن تتمكن من اكتشاف حدود هذه النفس مهما أمعنت في البحث"، لذلك شرع في رحلته الاستكشافية في أعماق النفس الداخلية، فنجده يتحدث عن الأحلام والمشاعر والشخصية قائلاً: "إن شخصية المرء هي قدره".

لكنه لم يهتم بالنفس البشرية دون الظواهر الخارجية، حيث شدد على أهمية الدلائل التي نتلقاها عن طريق الحواس فقال: "إن كل ما نستقبله من البصر أو السمع، أو ما نتعلمه من التجارب يندرج في قائمة اهتماماتي".

لكن أيضاً لم يكن البحث الدقيق في العوالم الداخلية والخارجية، هو كل ما في الأمر بالنسبة إليه، فهو يرى أننا لا يمكن أن نعول على ما ندركه عن طريق الحواس، أو بأي شكل آخر، مالم يكن لدى المرء فهم صحيح للمبادئ التي تحكم الطبيعة والتي يشير إليها بالمبادئ أو النظريات أو الصيغ التي تحكم الأشياء[7].

-----

المراجع:

[1] قصة الفلسفة اليونانية، زكي نجيب محمود وأحمد أمين، مؤسسة هنداوي، ص 43- 44.

[2] هكذا تكلم هيراقليطس، عادل عبد الله، مكتبة نور، ص 29.

[3] المرجع السابق، ص 41.

[4] المرجع السابق، ص 51.

[5] المرجع السابق ص 52- 53- 55.

[6] المرجع السابق ص 58.

[7] حلم العقل، أنتوني جوتليب، مؤسسة هنداوي، ص 63- 66.