هو صاحب زعامة خاصة بموقفه ومهمته، وفضلاً عن فصاحته وسهولة اجتذابه للسامعين حاصل على صفتين من ألزم صفات الزعامة، وهي الإخلاص والإيمان الذي عرف بهما بين أبناء قومه فعظموه وأكرموه ورفعوه بينهم مكاناً لا مطمع فوقه لطامع، وقد لقبوه النبي أو الروح العظيم (ماه – آتما)، وهي منزلة ليس بعدها ولا أرفع منها في دين البراهمة إلا منزلة واحدة هي الروح الكلية (بارام – آتما).

الروح العظيم "المهاتما غاندي"

في أكتوبر 1869 ولد موهانداس غاندي لأسرة تنتمي إلى طائفة يطلق عليها الفايسيا، وهي طبقة للنظام الاجتماعي في الهند تعتبر الثالثة، فالبراهمة هي الطبقة الممتازة، يليها الكشاتريه ثم الفايسيا وهي الطبقة العاملة. وقد التحق غاندي بمدرسة راجكوت الثانوية في سن الثامنة عشرة، واستمر ثلاث سنوات، ثم اقترح أحد أصدقاء الأسرة أن يسافر إلى إنجلترا ليتعلّم القانون ويصبح محامياً، فالدراسات العليا في الهند لن تؤهله إلا لوظيفة كتبة، وقد سُعد غاندي بهذه الفكرة التي وافق عليها أخوه الأكبر لاكسميداس وتكفل بكل نفقات تعليمه.

وفي لندن بذل غاندي جهده حتى يظهر بمظهر الإنجليز، فقلّد زيهم واهتمّ بتعلّم الكمان، وأخذ دروساً في الخطابة، لكنه بقي محافظاً على طبائع الشرقيين التي كانت متأصلةً في شخصيته. وبعد مضي ثلاث سنوات في دراسة القانون تخرج وأصبح محامياً، وقُيد اسمه في نقابة المحامين سنة 1891.

وقد اشتغل غاندي بالمحاماة في جنوب أفريقيا، ودعا الهنود المقيمين في بريتوريا إلى اجتماع للوقوف على أحوالهم ومعرفة مشاكلهم وإيجاد الحلول المناسبة لها، كما شجّع الإقبال على التعليم، وتطوع لتدريس الإنجليزية في الترانسفال. كما اعتقد مبدأ تسوية المنازعات بالوسائل السلمية، والابتعاد ما أمكن عن حلبة الصراع أمام المحاكم. وما لبثت أن بدأت حياة غاندي في التغيير تدريجياً، ولمع في كل ركن من أركان جنوب أفريقيا، كذلك اتسم اسمه بمحاربة القوة المسيطرة الظالمة، لكن ليس بأسلوب سلبي مطلق، بل دعا إلى القيام بمظاهرات، والوقوف ضد الأساليب العنصرية، شريطة عدم اللجوء إلى العنف، ورغم أن هذا الأسلوب يعبر أصدق تعبير عن أسلوب أخلاقي رفيع، إلا أن المجتمعات البشرية لا تقيم أهمية إلا للقوة الغاشمة[1].

ويمثل المهاتما غاندي الزعيم الهندي حالةً فريدةً ومتميزة في تاريخ البشرية، ذلك لأنه كان مناضلاً مستنيراً برز اسمه بين مشاهير العالم ورواد التنوير خلال سنوات القرن العشرين. كما أنه يقف في الصف الأول بين المجاهدين المكافحين الذين عرفتهم البشرية على مر التاريخ، ويأتي تميزه مما حمله من قيم سامية ومبادئ إنسانية راقية كان لها تأثيرها الكبير في نفوس الكثيرين حتى من خارج الهند ومن خارج عصره أيضاً، حتى انتقلت آراؤه وانتشرت أفكاره عبر الزمان والمكان لتصبح عالمية لها قيمتها ومكانتها وتقديرها الكبير.

وقد كان الحق واللاعنف هما مبدآ غاندي، كما تميز بالبساطة ورباطة الجأش، وكان الاستعداد لتحمل الأذى والألم جزءاً لا يتجزأ من حياته. ولقد آمن بالمساواة وسعى إلى تأكيدها في الممارسات الحياتية والمعاملات اليومية، ورفض الطبقية والتقسيم الطبقي بين المواطنين، وحارب التمييز العنصري لما يزيد عن عشرين سنة قضاها في جنوب أفريقيا، كذلك وفي العام 1904 أصدر في جوهانسبرغ صحيفة أسبوعية أسماها الرأي الهندي، وقد كان يحرر مقالاتها الافتتاحية، وعلى صفحاتها شرح مبادئ الساتياغراها، حيث تعني الحق والمحبة والمقاومة بطريقة اللاعنف، وهي تعني عنده الحركة المنزهة عن كل عنف[2].

وكان بحكم دراسته متخصصاً في التشريع والعلوم السياسية، كما اطلع على أفلاطون وترجم منه "دفاع سقراط" إلى اللهجة الجوجراتية (لهجته الوطنية)، واطلع أيضاً على جون ستيوارت ميل وكارل ماركس، وأعجب بليو تولستوي الروسي وماتسيني الإيطالي، وتتبع آثار ريسكن وترجم له كتابه "حتى هذا المصير" إلى الجوجراتية، وقرأ ماكولي واستطاب بأسلوبه وبراعته في تعبيره، واستحسن ثورو الأميركي وأعجب بمعيشته وآرائه، ودرس اللاتينية وتذوق فيها عيون الأدب القديم في بلاغته الأصيلة، والحقيقة أن القليل من المصلحين الشرقيين في زمانه من أخذ بنصيب من الثقافة أوفى من هذا النصيب. لكنه أغفل جانب الفن في عمله ووصاياه، فلم يشغل باله بالصور والتماثيل والشعر والموسيقا، وقد سأله بعض المريدين عنها فأجابهم بأن أصحاب هذه الفنون لا يحفلون كثيراً بعمل الروح[3].

عاد المهاتما غاندي إلى وطنه بشكل نهائي في عام 1914، وبدأ رحلة نضاله الوطني ضد الاستعمار البريطاني، وفي عام 1915 أنشأ مؤسسة أشرام الاجتماعية لمساعدة المنبوذين وإيوائهم، وقاد مظاهرة عمال النسيج في أحمد آباد 1918، وقام بأول صيام لإرغام أصحاب المصانع على تسوية أوضاع العمال، وفي العام نفسه قاد مظاهرة للفلاحين في كهيدا، وفي 1919 شنّ حملةً واسعة ضد قانون رولات الذي يقيد الحريات المدنية.

أما في العام 1930 فقد نظم مسيرة كبيرة إلى البحر من مدينة سابرماتي أشرام حتى داندي، متحدياً بذلك القانون البريطاني الذي حرم السكان المحليين إنتاج الملح وحصره بالبريطانيين، وأدت هذه المسيرة إلى انتشار اليقظة السياسية والوطنية في الهند عامة، وقد اختار ضريبة الملح مادة لكفاحه هذا لأنها ضريبة تؤذي الفقراء والبسطاء. وفي العام نفسه قاطع مؤتمر المائدة المستديرة في لندن لوضع دستور جديد للهند بعد أن لمس مراوغة الجانب البريطاني، مفضلاً الرجوع إلى الهند ومواصلة كفاحه. وفي العام 1933 أصدر مجلة أسبوعية أسماها هاريجان، إيماناً منه بدور الصحف في تنوير الأذهان ونشر الثقافة بين الجماهير.

كفاح المهاتما ضد الحكم الأجنبي وصل ذروته في العام 1942 حيث نظم حزب المؤتمر حركة تدعو البريطانيين إلى ترك الهند، وأطلق حينئذٍ جملته الشهيرة "اتركوا الهند وأنتم أسياد"، فاعتقلته السلطات البريطانية على إثرها مع عدد من زعماء المؤتمر، وما إن علمت جماهير الهند حتى خرجت بمظاهرات قابلتها السلطات البريطانية بحملة دموية، ولم يُطلق سراحه حتى عام 1944 بعد تدهور حالته الصحية[4].

ويبرز في فلسفة غاندي مبدآن أساسيان هما الساتياغراها وهي كلمة سنسكريتية تعني التمسك بالحق والقوة، وأهيمسا وتعني اللاعنف الإيجابي، وهي الفضيلة المثلى، وقد قال عن المبدأين: "إن اللاعنف هو أعظم القوى في خدمة الجنس البشري، وأقوى سلاح ابتدعته عبقرية الإنسان". وقد دعا إلى المساواة في توزيع الحاجات المادية عن طريق وضع وسائل الإنتاج تحت سيطرة الشعوب، ودعا إلى الديمقراطية التي تعني في رأيه النظام الذي تتوافر فيه لأضعف الناس الفرص ذاتها التي تتوافر للأقوياء. كما قرأ الكتب المقدسة لكثير من الأديان، واعتبر الدين ضرورياً لحياة الإنسان، لأنه يوفر له الطمأنينة الروحية، ورأى أن جوهر الأديان واحد، وجميعها تحتوي على عناصر من الحقيقة المطلقة.

يقول راجندرا برازاد رئيس جمهورية الهند (1950- 1962) في كتابه "عند قدمي غاندي": "إن غاندي راعه ما شهده من فقر قرى الهند وحالة النساء فيها على نحو أخص، وصرح لرفاقه بأنه ما لم تحسن أحوال أولئك القوم البائسين وتلك القرى الشقية، فلن يكون في ميسور الهند أن تكون سعيدة". ولقد تعرض لمساءلة قانونية بسبب اهتمامه بأحوال الفلاحين ورفضه حالة الفقر في بعض قرى الهند، ورفضت السلطات قيامه بهذا العمل، حيث زار القرى في الأقاليم النائية، واستمع إلى الفلاحين وشكواهم، وتحدث إليهم واستطاع أن يؤثر في نفوس كثيرين من الناس بالعمل الذي قام به والطريقة التي اصطنعها لأدائه. ويسأل الرئيس راجندرا برازاد أي معنى تفيد هذه الساتياغراها على وجه الدقة؟ ليجيب نفسه: إنها تفيد معنى الإصرار على الحقيقة، الحقيقة التي يتعين أن نلتزمها فكراً وكلاماً وعملاً.

كما أن كثيراً من الساسة والاقتصاديين والاجتماعيين والمفكرين والمثقفين والكتّاب تأثروا بحياة المهاتما ومنهم أمير الشعراء أحمد شوقي الذي قال في تحية غاندي:

شبيه الرسل في الذود/ عن الحق وفي الزهد

لقد علم بالحق/ وبالصبر وبالقصد[5].

هو صاحب زعامة خاصة بموقفه ومهمته، وفضلاً عن فصاحته وسهولة اجتذابه للسامعين حاصل على صفتين من ألزم صفات الزعامة، وهي الإخلاص والإيمان الذي عرف بهما بين أبناء قومه فعظموه وأكرموه ورفعوه بينهم مكاناً لا مطمع فوقه لطامع، وقد لقبوه النبي أو الروح العظيم (ماه – آتما)، وهي منزلة ليس بعدها ولا أرفع منها في دين البراهمة إلا منزلة واحدة هي الروح الكلية (بارام – آتما) وهي روح براهما (روح الله). ونزاهته هذه شهد له بها حتى من رآه من الأوروبيين، وحتى أنصار الاستعمار من الإنجليز، بل شهد له بها حتى قاضيه الذي أمضى الحكم عليه بالسجن[6].

وقد كان كل من غاندي وطاغور شاعر الهند العظيم أولاد جيل واحد، بل يكادا يتفقان في العمر، ومثّل غاندي القائد المسالم المنتصر، في حين كان طاغور البلبل المغرد، وطاغور هو من أطلق على غاندي تسمية المهاتما والتي تعني الروح العظيم، في حين أطلق غاندي على طاغور لقب الحارس العظيم[7].

----

المراجع:

[1] عظماء من العالم غاندي، يوسف سعد يوسف، المركز العربي الحديث، ص 9- 15- 17- 21- 27- 28- 45- 46.

[2] غاندي رسالة اللاعنف والتسامح، رامي عطا صديق، جداول للنشر والترجمة 2014، ص 11- 12- 14- 15.

[3] روح عظيم المهاتما غاندي، عباس محمود العقاد، فن للطباعة 1999، ص 111- 117.

[4] غاندي رسالة اللاعنف والتسامح، مرجع سابق، ص 15- 17- 18- 19.

[5] المرجع السابق، ص 21- 51- 88- 119.

[6] روح عظيم المهاتما غاندي، مرجع سابق، ص 52- 53.

[7] عظماء من العالم غاندي، مرجع سابق، ص 64- 65.