على الرغم مما نال دانتي من الآلام والمحن، فقد تميز بروح التهكم والسخرية، فعرف كيف يبتسم ويضحك وسط آلامه وكيف يبعث الآخرين على الضحك. والحقيقة أن الكوميديا الإلهية مليئة بمواقف السخرية التي صاغها حتى في مواضع الأسى والعذاب.

عاش دانتي أليغييري في النصف الثاني من القرن /13/، والربع الأول من القرن /14/، عصر بدأت فيه العصور الوسطى تخفض من أجنحتها، وينبثق من خلاله فجر عصر جديد.

ولقد كان لظروف الحياة الإيطالية بحسناتها وسيئاتها، أثرها الفعال في خلق أجيال من العباقرة الإيطاليين، فكانوا ثمرة العصر وبناته على السواء، وقد أخرجوا نتاجهم الرائع في الفكر والعلم والأدب والتصوير والنحت والعمارة والسياسة والحرب، ومنهم دانتي الشاعر الفنان الجندي السياسي المصلح المتصوف، أحب بياتريشي من سن الـ /19/ عاماً، وهي ابنة فولكو أحد أثرياء فلورنسا، لكنها تزوجت سيمون دي باردي الثري، ثم ماتت في صباها، فحزن دانتي لموتها حتى مرض.

تلقى دانتي التعاليم السائدة في عصره، فدرس تعاليم القديس فرنتسشكو في دير الفرنسيسكان في فلورنسا، وتعاليم القديس توما الأكويني في دير الدومينيكان، ودرس في جامعتي بادوا وبولونيا، وعكف على دراسة الطب والقانون والموسيقا والتصوير والنحت والفلسفة والطبيعة والكيمياء والفلك والتاريخ والسياسة واللاهوت، ودرس تراث اللاتين، وألمّ بتراث اليونان والشرق، وعرف ثقافة العصور الوسطى، وتعلم الفرنسية ولغة البروفنس، ودرس أدب التروبادور، وأدرك آثار الأدب الإيطالي الوليد، كذلك اشترك في الحياة العسكرية فكان فارساً ومقاتلاً شجاعاً، كما اشترك في حياة المجتمع واختلط بالشباب الفلورنسي، وتمتع بملذات الحياة.

على الرغم مما نال دانتي من الآلام والمحن، فقد تميز بروح التهكم والسخرية، فعرف كيف يبتسم ويضحك وسط آلامه وكيف يبعث الآخرين على الضحك. والحقيقة أن الكوميديا الإلهية مليئة بمواقف السخرية التي صاغها حتى في مواضع الأسى والعذاب[1].

لقد كتب دانتي عدداً من المؤلفات الصغرى في مراحل نموه الأدبي، مهدت لملحمته الكبرى "الكوميديا"، حيث كتب مؤلفه الحياة الجديدة بلهجة توسكانا العامية نحو سنة 1293، ويسرد مؤلفه ثلاث مراحل في تاريخ حبه، فالأولى مرحلة الشباب الباكر، يتغنى بها بمزايا بياتريشي، والثانية يشيد بالفضائل التي تشع منها، والثالثة يفقدها بالموت، وفي مؤلفه هذا نواة "الكوميديا" بما فيها من ألم وبكاء، وزهد وتصوف، وما تتضمنه من أرواح الملائكة ورؤى السماء.

كما كتب "الوليمة" باللهجة التوسكانية في الفترة ما بين 1306 إلى 1308، والكتاب وليمة علم ومعرفة، فالوليمة نوع من الحياة الجديدة لكن باعثها ليس الحب بل الفلسفة والمعرفة. وفي الفترة ذاتها وضع كتابه عن اللغة العامية، باللغة اللاتينية لخاصة المتعلمين.

أما كتابه الملَكية الذي كتبه في الفترة من 1309 إلى 1313، فقد انتهى من وضعه بعد أن تبدد حلمه السياسي، لذلك كتبه باللاتينية لأنه لم يقصد أن يوجه لعامة الناس، وفيه تأثر بدرجة متفاوتة بفلسفة أرسطو وآراء الرومان والكتاب المقدس وتعاليم توما الأكويني وبشيء من فكر ابن رشد[2].

الكوميديا الإلهية

لم يكن دانتي أول من تناول الكوميديا (عالم ما بعد الحياة)، فقد تناولتها ثقافات البشر منذ أقدم العصور. وكذلك في القرن العشرين درس بعض المستشرقين مسألة العلاقة بين كوميديا دانتي والتراث الإسلامي، ومنهم ميغيل آسين بلاثيوس المستشرق الإسباني الذي وضع سنة 1919 كتاباً بالإسبانية عن العلم الإسلامي لما بعد الحياة في الكوميديا الإلهية، ووازن بين كوميديا دانتي ومؤلفات بعض متصوفي الإسلام مثل محي الدين بن عربي ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري وكتابات المحدثين والمفسرين، وبعض صور الإسراء والمعراج النبويين، وتحدث عن أوجه الشبه بينها وبين عوالم (الجحيم والمطهر والفردوس).

ويقال إن دانتي بدأ بكتابة بعض أناشيد الجحيم في فلورنسا باللغة اللاتينية، ثم أعاد كتابتها بلهجة فلورنسا وهو في حياة المنفى، ويقال إنه انتهى من كتابته سنة 1314، ويظهر أنه أنهى كتابه عن المطهر في حدود 1316، وكتب الفردوس في رافنا، وأطلق على قصيدته الخالدة لفظ الكوميديا، وهو لفظ مأخوذ عن اليونانية القديمة، بمعنى أغنية تغنى بلغة العامة، وكذلك قُصد باللفظ أنها تبدأ في غابة موحشة، وتنتهي إلى السعادة الإلهية، وقد سماها الدارسون والناشرون فيما بعد "الكوميديا الإلهية" في البندقية سنة 1555 ومنهم بوكاتشو في كتابه حياة دانتي[3].

وهذه الكوميديا هي نوع من الشعر فريد، ليس له نظير فيما سبق وفيما تلا من القصائد الطويلة من ناحية بنائها العام ومضمونها الشامل المنوع وهدفها في الدنيا والآخرة، وينتظمها العدد /3/ رمز الثالوث المقدس، وهي تنقسم في /3/ أناشيد (الجحيم والمطهر والفردوس)، فالجحيم مقسمة إلى مدخل و /9/ حلقات، والمطهر مقسم إلى /9/ أفاريز، والفردوس الأرضي، والفردوس مقسم إلى /9/ سموات وسماء السموات، ويتكون كل نشيد من /33/ أنشودة يضاف إليها مدخل الجحيم فتصبح كلها /100/ وهو العدد الكامل ورمز الوحدة واللانهاية في العصور الوسطى، وأبياتها ثلاثيات، أول من ابتدع طريقتها دانتي.

وقد ألغى دانتي في الكوميديا فوارق الزمان والمكان، ومزج بين الأسطورة والتاريخ والواقع والخيال، وفيها رسم السهل والجبل، والصحراء والغابة، والجدول والنهر والبحر، ومطلع الشمس وغروبها والنجوم، ولم يفلت جزء من الجسم البشري من الخارج أو الداخل إلا رسمه أو أشار إليه، وصور البكاء والعويل والتنهد وضرب الأكف والضحكات، والترنم بالأنغام وطبائع البشر كلها، وفيها موتى وأحياء، وفقراء وأغنياء، وأشرار وأطهار، وبابوات وملوك وأباطرة، وأطفال ونساء، وفلاسفة وقديسون وموسيقيون وأبالسة وملائكة، والصبر والجهد والخوف والتردد واليأس، وقوة النفس والحكمة البالغة والغيرة والثورة، والرقة والعنف، والسخرية والتهكم، والإيمان والأمل[4].

في قراءتها لأنشودة الجحيم تذكر جاكلين ريسيه أن نشيد دانتي الأول في الكوميديا يصف الجحيم، كأنها لم تكتب ككتاب بل زيرت كبلاد، ويروى أن الإيطاليات المسنات كنّ عندما يرَين الشاعر في الطرقات بعد صدور هذا النشيد وذيوعه يفسرنَ دكنةَ ملامحه بما لحقه في الجحيم من لهب النيران. وقد بقيت صورة العمل لا كنص مكتوب، بل كأثر على رحلة استكشافية عظيمة تضفي على دانتي نوعاً من المسافة القسرية والجذرية، صورة شاعر عتيق، فالبعد النبوي القروسطي وكامل تجربته الدينية يظلان غريبين علينا نحن المعاصرون، غربة تزيد من حدة دقته الرهيبة في توظيف المعطيات المكانية والتاريخية.

وقد مارس الجحيم حضوره وأثره في الأدب الفرنسي في القرن /19/ عبر الرواية السوداء، باعتبار الجحيم هو شعر للفظاظة ومستودع لمشاهد الرعب، وبؤرة للأذى والشر، وتعلمنا ريسيه بأن كتّاباً فكروا بعملهم كله كبلزاك، أو بقسم كبير منه كبودلير ونرفال ولوثر يامون، انطلاقاً من هذا المحل الأساسي للتجربة الأدبية، كما فكر آخرون كستندال وألكسندر دوماس بترجمته إلى لغتهم. كما أن القراء المعاصرين ممن أدمنوا قراءة آرتو أو كافكا أو بازوليني أو جنيه، أو ممن راقبوا فجائع القرن الـ /20/ وكوارثه التاريخية، يجدون أن دانتي بقوة أسلوبه ودقته في الجحيم قد سبق إلى وصف الرعب المعاصر المتعذر على التخيل، ولقد دخلت الجحيم الدانتية جميع المعاجم الأوروبية لنعت كل ما هو متطرف في إثارة الرعب[5].

ولكتابة المطهر كان على دانتي أن يؤسس كليّاً أو يكاد، فلم يكن لديه من تراث لاهوتي ولا شعري يمكن استلهامه والتنويع عليه والتناص معه كما حصل في الجحيم.

في أنشودة الشاطئ يصل دانتي وفرجيليو إلى المطهر مع الفجر، وسرعان ما نحسّ معهما بنوع من الخلاص أو صورة أولى عن الخلاص النهائي الذي سيناله لدى ارتياد الفردوس، تحرر نالاه أخيراً من عوالم الجحيم المظلمة وعموديتها الأليمة، في انتظار عمودية أخرى لذيذة تنشر أفقية سعيدة أفقية الشاطئ الذي يصلان إليه، وتكتب عنه ريسيه أن هذه الأفقية الفجرية يُحسّ بها لدى القراء جسدياً كوصول وكصورة لكمال مرهف، تم اللحاق به أخيراً.

والمطهر هو الموضع الوسيط الذي ينقل الشاعر المسافر من ظلمات الجحيم إلى أنوار الفردوس، أفقه أفق انتظار، وفيه يتطهر من هم في منزلة وسط بين البراءة والإثم، ريثما يلتحقوا بالملأ الأعلى، لذلك ليس من قبيل الصدفة أن يكون زاخراً باللقاءات مع وجوه تدعوهم ريسيه بالآباء.

لكن دانتي في أنشودة آباء أو شفعاء عندما يَعد وجوه الآباء وصورهم يُبطل سطوة الأبوة الواحدة، ويمنح العلاقة حريةً إضافية، وقد نذهب إلى ما هو أبعد وندعوهم شفعاء، أي صور رفاقية متقدمة في التجربة يلتمس منها دانتي إضاءات تساعده في الاقتراب من مركز بحثه الذي ما برح يفلت من يديه.

وخلافاً لما في الجحيم، يتمتع العقاب في المطهر بملمح مزدوج لا يتكبده الخاطئ كعقوبة فحسب، بل ليتطهر من الإثم ويتهيّأ للغبطة الطوباوية التي تنتظره في السماء بعد مدّة التطهر التي قد تطول أو تقصر بحسب الإثم، إذاً للعقوبة دلالة معنوية وهي تضطلع بدور أمثولة أخلاقية.

وبعد أن كان المسافران يسمعان في الجحيم نواح المعذبين وصراخ الشياطين الجلادين وحراس مدينة العذاب، تُحقق أنشودة الموسيقا دخولها في الأنشودة الثانية من نشيد المطهر، فيرى المسافران نوراً يتقدم في الأفق البحري وهو بياض جناحي الملاك النوتي، الذي ينقل الأرواح الوافدة إلى جبل المطهر بقاربه السريع، وفي الأنشودة نفسها يلتقي المسافران شبح كازيلا، وهو مغنٍ كان معروفاً زمن دانتي، فيسأله أن يغني له بصوته الساحر، فيغني كازيلا واحدةً من المقطوعات التي كتبها دانتي في شبابه، وما هي إلا هنيهات حتى يأتي الشيخ النبيل كاتون ويوبخ الأرواح على كسلها، ويطالبها باستعادة نشاطها، وهنا تكون الموسيقا كمثل استعجال أو تمهيد للفرج الفردوسي[6].

ومثلما تضمنت الجحيم منطقتين (دوائر العذاب واليمبابيس) والمطهر نطاقين (أفاريز المطهر والفردوس الأرضي)، فإن الفردوس يتألف من السموات الـ /9/، تليها السماء العاشرة سماء النور الخالص، المستقلة عن السموات الأخرى، والثابتة وغير المادية. وتذكر ريسيه إذا كان دانتي قد ابتكر فضاء كل من الجحيم والمطهر مستعيناً ببعض العناصر الأسطورية والشعبية، وقد أعاد معالجتها وتحويلها وتنميتها، فهو يفيد في الفردوس من المعرفة الفلكية والبروجية السائدة في عصره، ليبتكر نطاقاً للمتع الطوباوية ويؤسس مسرحاً سماوياً مكتملاً يستضيف فيه أنبياء وقديسين وعظماء آخرين معروفين.

وفي الفردوس يأخذ دانتي بترتيب السموات كما وصفه علماء الفلك في عصره، ويرى أن العقول المحركة لها هي الملائكة، وعلى امتداد الأنشودات الـ /33/ التي يتألف منها نشيد الفردوس ينتقل المسافر الفضائي من السماء الصغرى والأبطأ حركة والتي هي الأقرب إلى الأرض من السماء الكبرى والتي هي أسرع وأبعد من سماء القمر الذي كان يُعد كوكباً شأنه شأن الشمس، إلى سماء عطارد فسماء الزهرة فسماء الشمس فسماء المريخ وسماء المشتري أو البرجيس فسماء زحل، وهذه السموات المكوكبة السبع، فسماء الأنجم الثابتة، فسماء البلور أو المحرك الأول الذي يحرك السموات السابقة جميعاً، وتلي هذا كله السماء العاشرة، سماء النور الخالص.

وقد لفت جميع (الشراح) إلى حيلة فنية بارعة توسلها دانتي للكشف عن طبيعة الفردوس ومختلف مراتب سكانه، أن جميع الطوباويين مقيمون في السماء العاشرة مستغرقين في تأمل الله ومعرفته، ولكن حتى يرتاد دانتي كل سماء صحبه عدد من هؤلاء ليتقدم على هدي من إرشاداتهم، ولكي لا يصف لنا السموات التسع المتعاقبة كمسارح فارغة إلا من التظاهرات النورانية، جعل عدداً منهم ينزلون من السماء العاشرة ويتوزعون على السموات التسع، هناك سيلقنوه ويزيلوا عن بصيرته بعض غشاوة ما تزال تكتنفه، ويهيئونه لمعرفة نفسه ولمعرفة التاريخ السياسي والديني بما فيه من نقاط التماع وظلام، وخصوصاً لرؤية النقطة المشعة التي تشير إلى الله.

وفي سماوات الفردوس يقابل دانتي في كل سماء استعداداً خاصاً لخير معين مرتبط بفضيلة معينة، وهذا ما نقابله في أغلب الرحلات الرؤياوية والأسفار الروحانية خصوصاً أسفار ابن عربي.

ففي السموات الثلاث الأولى (سموات القمر وعطارد والزهرة) يقابل أرواحاً عرفت ترويض الشهوات الحسية وجابهتها بإحدى الفضائل الفكرية الأساسية (الاعتدال)، وفي الثلاث التالية (الشمس والمريخ والمشتري) يقابل أرواحاً تميزت بفضائل (الحذر أو قوة النفس أو روح العدل)، وفي السماء السابعة يقابل أرواح التأمليين، ويجعل من التأمل حين يكون مقروناً بالفعل سمةً أساسيةً ويشذبه من كل مكان يرتبط به من خمول وسلبية، سائراً بذلك في أثر أرسطو والقديس توما الأكويني، وفي السماء الثامنة التي يديرها الملائكة المتميزون بالعبادة والصلوات المتواصلة يرى المسيح بكامل بهاء جسده النوراني بصحبة أمه العذراء. وهنا يختبره ثلاثة قديسين في الإيمان والرجاء والمحبة (الفضائل الدينية الثلاث)، أما في السماء التاسعة فيديرها السرفيون (الملائكة المعروفون باحتراقهم في الوجد الإلهي)، وهنا يتلقى شروحاً عن طبيعة الملائكة وخلقهم ومراتبهم، ويعرف علاقة السموات الأخرى بهذه السماء التي تحركها جميعاً، إذ هي سماء المحرك الأول، ثم يجد دانتي نفسه في السماء العاشرة وهي مقام الطوباويين وتبدو البداية لدانتي نهراً من النور، يتحول عندما يتعود نظره إلى مدرج تشكل مقاعده التي يشغلها العادلون الوردة الأزلية (وردة العادلين)، وفي الختام وبمساعدة القديس برنار المفوض من قبل بياتريشي بإرشاده، يتمكن دانتي في التحديق بالنقطة المشعة التي ترمز إلى الله، ومن تحقيق الرؤية الثالوثية (الواحد في الثلاثة وكل من الثلاثة في الآخرين والثلاثة في الواحد)[7].

----

المراجع:

[1] الكوميديا الإلهية الجحيم، دانتي أليغييري، حسن عثمان، دار المعارف، ص 13- 21- 22- 26- 45.

[2] المرجع السابق، ص 50- 51- 52- 53.

[3] المرجع السابق، ص 55- 59- 60- 61.

[4] المرجع السابق، ص 62- 65.

[5] دانتي أليغييري، الكوميديا الإلهية، كاظم جهاد، المؤسسة العربية للنشر والتوزيع، ص 39.

[6] المرجع السابق، ص 64- 65- 67- 68.

[7] المرجع السابق، ص 79- 80- 81.